أبحاث

الأكراد في سوريا حيرةٌ بين وطنيّةٍ سوريّةٍ وقوميّةٍ كرديّةٍ

تدّعي هذه الورقة المعالجة المختصرة لأربع نقاطٍ محوريّةٍ واجهت المكوّن الكرديّ السوريّ منذ انطلاق شرارة الاحتجاجات في سوريا.

النقطة الأولى: نقد لأطروحات “المجلس الوطنيّ الكرديّ” حول حلّ المسألة الكرديّة في سوريا.

النقطة الثانية: مسألة “حزب العمال الكردستانيّ “PKK، وفصيله السياسيّ والعسكريّ السوريّ “حزب الاتحاد الديمقراطيّ PYD”.

النقطة الثالثة: عن علاقة الأكراد مع الجيش الحرّ.

النقطة الرابعة: نقد تأصيل الحداثة في القوميّة الكرديّة.

الأكراد بين لامركزيّة متعذَّرة ومواطنة متجوهرة

عزّز التسلّط السوريّ من أزمة اللاثقة الأهليّة بين المكوّنات الأصليّة، وجعل المُتاركة المتبادلة بين هذه الجماعات الخام أكبر من قطيعتها النفسيّة مع الاستبداد الفادح، المسيطِر على مفاصل النقاش كلّها، ليُظهِر نفسهُ كمصدرٍ وحيدٍ للتماسك الوطنيّ. لذلك، فإنّ الحراك السوريّ المتصاعد أظهر كم أنّ البنية النسيجيّة المجتمعيّة السوريّة منتفخةٌ ومتفسّخةٌ إلى وحداتٍ ثابتةٍ، تفضّل أرومة الدم على الاندماج في المتّحد الوطنيّ الفعّال. وهذه حقيقةٌ يجب أن تقال وذلك بعيداً عن المقولات الإنشائيّة والخطابيّة التي تحتفي بــ «وعي الشعب السوريّ العظيم»، والمهووسة بنرجسيّةٍ وطنيّةٍ متعاليّةٍ تنكر احتمال اندلاع حربٍ أهليّةٍ في سوريا.

وعلى غرار ذلك، دأبَ البعث السوريّ على جوهرة الفارق بين الهويّتين العربيّة والكرديّة، وعلى رسم الهويّتين كنسقين متوازيين لا يلتقيان، وأسّس مجموعةً مركزيِّة من التقاليد الضاغطة والحاجبة والعازلة على الأكراد، وجعلَ هويّة الأكثريّة العربيّة ضاغطةً قاهرةً متسلِّطة، وهويّة الأقليّة الكرديّة راضخةً مقهورةً مغلوبة، ظهرَ ذلك بشكلٍ جليٍّ عند تفجّر الحراك السوريّ، حيثُ وجد الصوت الكرديّ، الأخفض المستكين والباطنيّ المسحوق، في الحدث المندلع، قناةً لتصريف رغبةٍ كرديّة حارِقة في إظهار تميّزٍ قوميٍّ متورّمٍ في اللاشعور، الذي لطالما أُصيب بجروحٍ غائرةٍ في الصميم. وهذا طبيعيٌّ، لأنّ القمع المكثّف ضدّ فئةٍ أهليّةٍ معيّنة سيولّد احتجاجاً اعتراضيّاً مصطبغاً بثقافة تلك الفئة لحظة ثقبِ كيس الحنق المضغوط بإبرة التغيير.

وبموازاة الانخراط الكرديّ الحذر في الانتفاضة السوريّة، تأسّس «المجلس الوطنيّ الكرديّ» وأطلق بياناً ختاميّاً، طالب فيه بشكلٍ صريحٍ بـــ «اللامركزيّة السياسيّة». إنّ التفحّص الدقيق لهذه الخطوة سيُظهِر أنّه حتى كَسرُ الدولة المركزيّة بمعول «اللامركزيّة السياسيّة» لم يعد حلّاً ناجعاً لرأب صدع التشقّق الوطنيّ السوريّ. وأكثر الموانع الموضوعيّة لفاعليّة ذلك هو الازدياد المطّرد لتجاور العناصر الوطنيّة في المدن الكبيرة عموماً والعاصمة دمشق تحديداً، حيث يندرُ إيجاد محافظةٍ سوريّةٍ واحدة متجانسةٍ من حيث اللغة والثقافة والدين، يصحّ هذا القول إلى حدٍّ كبير في الحالة الكرديّة السوريّة حيث تنتشر نسبةٌ كبيرةٌ من الأكراد في مدينتي حلب ودمشق (لا توجد إحصاءاتٌ رسميّة ولكن تخمينات متعدّدة تقدّر أنّ هناك أكثر من 400 ألف كرديٍّ في مدينة حلب، وأكثر من 300 ألف كرديٍّ في دمشق وريفها)، ولأسبقيّة الواقع على النصّ فإنّ أيّة «لا مركزيّة سياسيّة» مطروحةٍ لا تستطيع أن تعالجَ هذا الإشكال الواقعيّ المُعطِّل، كون المناطق الكرديّة السوريّة جغرافيّاً هي منفصلةٌ ومبعثرةٌ وليست متصلةً (توزّع المدن الكرديّة التالية:القامشلي وعفرين وعين العرب)،علماً أنّه حتّى مدينة القامشلي ذات الغالبيّة الكرديّة نسبيّاً، ليست مستقلّةً اجتماعيّاً واقتصاديّاً، وهذه كلّها عوائق أمام الاتصال الإداريّ.

وبالمقابل، فإنّ قطاعاً واسعاً من المعارضة العربيّة (القوميّة الناصريّة والدينيّة الإسلاميّة) تريد اجتثاثاً وانتشالاً للكرديِّ من «أسر انتمائه الجماعيّ على نحوٍ إراديٍّ عاجلٍ، لا تاريخيٍّ متدرجٍ. وذلك من دون أيّ تمهيدٍ سياسيٍّ أو اقتصاديٍّ، وتشرّبٍ عميق ل ـــ «ثقافة المواطنة» في البنية المجتمعيّة ـــ الثقافيّة، أي التعامل مع الكرديِّ كمجرّد سياسيٍّ متحرّرٍ من ثقل الهويّة. مع أنّ المعارضة العربيّة نفسها متخمةٌ بإملاءات الهويّة ورازحةٌ تحت سطوة الأيديولوجيا. وهذا ولّد خوفاً أقلويّاً كرديّاً من الاستخدام الأداتيّ والانتهازيّ لمفهوم مواطنة (تماماً يماثل خوف الأكثريّة العموديّة الثابتة من مفهوم العلمانيّة، وخوف الأقليّةِ المذهبيّة من مفهوم الديمقراطيّة)، كأن تُتّخذ ك ـــ «أيديولوجيا تبرير» من قبل الأكثريّة العربيّة لطمس التضاريس الثقافيّة في الهويّات الأقلويّة الفرعيّة. بمعنى آخر، إلحاق الآخر الكرديّ الأقلويّ بالذات الثقافيّة العدديّة العربيّة الكبرى سياسيّاً.

انطلاقاً من ذلك فإنّ أيّة مواطنةٍ مطروحة يجب أن تراعي هذا الانتقال المتدرّج البطيء للفرد من الحاضنة الأهليّة البدئيّة (الانتماء الجمعيّ) إلى الدولة الدستوريّة الحديثة (الانتماء الفرديّ)، وتحديداً من خلال خلق التوازن بين نزعتين على حدِّ تعبير المفكّر جورج طرابيشي في كتابه (هرطقات)، وذلك بعدما تجرّأنا على استبدال مفهوم الديمقراطيّة بمفهوم المواطنة: «نزعة مساواتيّة متطرّفة حربَتُها عقلانيّةٌ كونيّةٌ مجرَّدة تريد تدمير الفروق الثقافيّة، مشذّبةً الخصوصيّات العينيّة التي تشكّل ثقلاً خلّاقاً للسلطة المركزيّة، ونزعة ثقافيّة خصوصيّة نزّاعة بتطرفٍ إلى احترام الأقليّات لدرجة تصديع سلطة المركز»، وتصعيد كسور المجتمع الأهليّ إلى منصّة السياسة.

احترام الفروق يجب ألّا يعزّز التشقّقات الاجتماعيّة (مُحاصصة طائفيّة مثلاً)، ومن ثمّة تشكيل هويّاتٍ جمعيّةٍ مقفلةٍ تعرّف وتعبّئ نفسها وجدانيّاً بالتضادّ مع الآخر. بلغةٍ أخرى، يجب أن تخفّف هذه المواطنة الفروق العميقة بين الفرد كمقولةٍ سياسيّةٍ دستوريّةٍ والفرد كمقولةٍ طبقيّةٍ اقتصاديّة واجتماعيّة. وبناءً على ذلك، فإن أيّ مواطنةٍ تأخذ البنية السياسيّة الطبقيّة الفئوية بعين الاعتبار، فإنّها ستشدّ وترخي حسب تشابك المصالح في الميزان الداخليّ.

في أوطانٍ مليئةٍ بعناصرَ متنابذةٍ ومخترقةٍ بخطوط فصلٍ عموديّة في العمق، فإنّ عمليّة بناء الدولة ـــ الأمّة (توزيع عادل للثروة، مشاركة فاعلة لكلّ المكوّنات الأهليّة في المؤسّسات، واحتكار العنف الشرعيّ من قبل الدولة) هي متداخلةٌ بشكلٍ معطّل وشائكة، ممّا يتطلب رغبةً جديّةً وأكيدةً من كلّ المكوّنات المجتمعيّة في التقليل من الفوارق والمزاوجة بين الممكنات وإنشاء قاعدة تواصلٍ نظيفةٍ وصافيةٍ وموضوعيّةٍ لبناء وطنٍ مستقرٍّ، تكون فيه الفوارق الأهليّة حبيسةَ القاع الاجتماعيّ ولا تتبلور على شكل وحداتٍ سياسيّةٍ ثابتةٍ ومفكِّكة للدولة (العراق ولبنان نماذج حيّة)، وهذا ما يتطلّب حواراً جديّاً وعميقاً بين الأطراف الكرديّة والعربيّة، ومراجعةً شاملةً وجذريّةً للأطروحات التي تدعو إلى حلّ المسألة الكرديّة في سوريا من قِبل الأطراف العربيّة والكرديّة، لأنّ لمعان المفاهيم لا يناسب تعقيد الواقع، والالتصاق بالنفس أسهلُ طريقةٍ في الابتعاد عن الغير.

حزب العمال الكردستانيّ PKK والأزمة السوريّة

غالبيّة الأحزاب الأيديولوجيّة الشعبويّة، التي تمتلك مرجعيّاتٍ نظريّةً عابرةً للحدود القطريّة، لا تستطيع صياغة سياسةٍ إقليميّةٍ عامّة، تكون وفيةً بدقةٍ تامّة للمتن الأيديولوجيّ النظريّ، عند انتقال عمل الأحزاب من العمل السياسيّ إلى الكفاح المسلَّح، يصحّ هذا الافتراض نسبيّاً على عدّة أحزابٍ أيديولوجيّة في المشرق العربيّ، حيث رغم المرجعيّة الفقهيّة الدينيّة الواضحة في كلّ أدبيّات تنظيمات الإخوان المسلمين حول العالم، فإنّ الأخوان المسلمين الفلسطينيّين (حركة حماس)، كانت موجودةً في سوريا في الوقت الذي كانت فيه تهمة السوريّ المنتمي إلى أيّ تنظيمٍ أخوانيٍّ هو الإعدام، والأخوان المسلمون السوريّون كانوا يلقون الدعم والرعاية والاهتمام من قبل البعث العراقي، في الوقت الذي كان فيه صدّام حسين يضطهد الأخوان المسلمين العراقيّين. وحزب العمال الكردستاني PKK، ذو التوجّه التحرّريّ الماركسيّ القوميّ الكرديّ، كان يلقى الدعمَ اللوجستيّ والماديّ من قبل البعث السوريّ أثناء صراعه مع الجيش التركيّ، في حين كان حافظ الأسد يطبّق أقسى قوانين العزل والإقصاء على الأكراد السوريّين.

ومنه فمنذ بدء الاعتراض الاحتجاجيّ في سوريا، فإنّ جُلَّ مقاربات المثقّفين والمحلّلين لمسألة حزب العمال الكردستانيّ وموقِفه من الحراك السوريّ، تنوسُ بين فكّي ثنائيّةٍ شالّة، يشكّل حدّاها مسارين إطلاقيَّين ومغلَقين؛ المسار الأوّل متشنِّجٌ يرى في حزب العمال تنظيماً سياسيّاً ملحَقاً على شكل استطالةٍ ممتدّةٍ للنظام السوري، وبأنه سلطةٌ «أسديّة» بصبغةٍ قوميّةٍ كرديّة، بديلة وتابعة في المناطق الكرديّة، قراره السياسيّ يطبَخ في أقبية الاستخبارات السوريّة. المسار الثاني شعبويٌّ ودوغمائيٌّ، يؤكّد أنّ قرار الحزب مستقلٌّ تماماً، وغير خاضغٍ للتوازنات الإقليميّة الدقيقة، وأنّ وجوده كميليشيا مسلّحة في المناطق الكرديّة ملحٌّ ومهمٌّ، لحمايتها من الاستخبارات التركيّة التي «تسرحُ وتمرح» على الحدود السوريّة ـــ التركيّة، وبأنّه قوّةُ ضبطٍ تمنع المجتمع الأهليّ الكرديّ داخليّاً من الفوضى والانفلات.

حتى نخرج من حدّي المقارَبتين السابقتين، يصبح علينا تفكيكُ شكل النظام الإقليميّ الجديد البادئ بالتشكّل منذ بدء «الربيع العربيّ»، حيث تشهد المنطقة من جنوب اليمن حتى إقليم كردستان العراق تفكّكاً أهليّاً عموديّاً على أساس الهويّة، بسبب هشاشة الهويّة الوطنيّة الجامعة وضعف قاعدة المجتمع المدنيّ. كما أنّ الأحزابَ السياسيّة الكرديّة الفاعلة على الساحة الإقليميّة لن تستطيعَ «النأي بنفسها» عن هذا الاستقطاب. فالساحةُ الكرديّة ـــ السوريّة منذ بدء الحراك الشعبيّ تشهدُ توتّراً بين «حزب الاتحاد الديموقراطيّPYD » الجناح السياسيّ السوريّ الرديف لـــ «حزب العمّال»، و «المجلس الوطنيّ الكرديّ» الذي يعتبره مسعود البرزاني عمقاً إستراتيجيّاً له في الأراضي الكرديّة ـــ السوريّة. إنّ جزءاً من هذا التوتّر مردُّه في العمق انشطار رئاسة الإقليم وحزب العمّال بين المحورين السنّي والشيعيّ، فإشارات التودّد بين رئيس إقليم كردستان وحكومة أنقرة تعبّر عن اقترابِ رئاسة الإقليم من المحور السنّيّ، وانتعاش حزب العمّال الكردستانيّ بعد الأزمة السوريّة، وعودة عناصره للسيطرة على المناطق الحدوديّة السوريّة ـــ التركيّة، وإيقاف الجناح الكرديّ ـــ الإيرانيّ لحزب العمّال الكردستانيّ عمليّاته ضدّ نظام الملالي، كلّها دلائلُ على اقتراب حزب العمّال من المحور الشيعيّ. والمكان الذي سترتفع فيه حدّة المواجهة بين حزب العمّال ورئاسة الإقليم هو الساحة السوريّة ـــ الكرديّة، وأدواته المجلس الوطنيّ الكرديّ وحزب الاتحاد الديموقراطيّ والقوّة العسكريّة الغامضة الملامح والأهداف، التي ربّما يتمّ تدريبها حاليّاً في أراضي الإقليم (أقول ربّما) لمواجهة الوجود المسلَّح لحزب العمّال في الأراضي الكرديّة ـــ السوريّة عند غياب سلطة الدولة، أو تحقيق التوازن الإستراتيجيّ معه، وذلك والانهيار المفاجئ للنظام السوريّ والوقوع في شرك الفوضى. بعبارةٍ أخرى، نحن نشهد تصدّعاً للأكراد بين طرفي الاستقطاب الملتهبَين في المنطقة، السنّي التركيّ والشيعيّ الإيرانيّ، والقوّة المسلّحة المدرّبة المكوّنة من الأكراد المنشقّين من الجيش السوريّ، إذا دخلت إلى المناطق الكرديّة، فستكون من أجل توزيعٍ للنفوذين، إيرانيّ داعم لحزب الاتحاد الديمقراطيّ PYD، وتركيّ داعم للمجلس الوطنيّ الكرديّ.

إنّ حركاتِ التغيير العربيّ بتحقيقها أعمق التغييرات السياسيّة والمجتمعيّة في شكلٍ سلميٍّ لاعنفيٍّ، أصابت التنظيمات (القاعدة مثلاً) التي تتوسل العنفَ وسيلة للتغيير بدوخان أيديولوجيّ وفقدان في التوازن، وهذا ما دفع خالد مشعل رئيس حركة حماس، وهي حركةٌ يمينيّةٌ دينيّةٌ بالغة التشدّد، إلى تبنّي المقاومة الشعبيّة، مع العلم أنّ النضال السياسيّ المدنيّ اللاعنفيّ هو أفضل طريقةٍ للحفاظ على نقاوة القرار السياسيّ من ضغوط الغير، وأنّ حَرْبة السلاح تفضّ بكارة الاستقلال السياسيّ لأيّ حزب. على حزب العمّال أن يضع مشروعه الحزبيّ القائم على الهيمنة بقوّة السلاح على المناطق السوريّة الكرديّة جانباً، وعلى المجلس الوطنيّ الكرديّ أن يبقى مشدوداً إلى دمشق بدلاً من عواصم أخرى، لأنّ القضيّة الكرديّة ـــ السوريّة، على حدّ تعبير السياسيّ الكرديّ الراحل إسماعيل عمر، «تُحلّ في دمشق وليس في أنقرة وطهران وبغداد»، ومن خلال العمل جنباً إلى جنبٍ مع المعارضة لإرساء سوريا على مرفأ الديموقراطيّة.

الأكراد والجيش الحرّ

وبعد عسكرة الواقع السوريّ، وظهور العديد من التشكيلات العسكريّة، المتوزّعة على أشكال التوجّهات الإسلاميَّة، بالإضافة إلى بذور مقاومةٍ أهليّة شعبيّة وطنيّة، لم تستطع أن تتحوّل إلى حالةٍ عامّة، بسبب تعرّضها للتهميش من كتائب الإسلام الأيديولوجيّ العسكريّ (جبهة النصرة ـــ  دولة العراق والشام .. )، فإنّ اشتباكاتٍ عنيفةً جرت في عدّة مناطقَ في الشمال السوريّ، بين كتائبَ محسوبةٍ على المعارضة السوريّة وقوّاتٍ كرديّةٍ مسلَّحة YPG، هي في غالبيتها العظمى تابعةٌ لحزب الاتحاد الديمقراطيّ PYD. أربعةُ أسبابٍ رئيسةٌ تجعل دخولَ المقاتلين المسلّحين إلى المناطق ذات الغالبيّة الكرديّة في سوريا، أمراً بالغَ الخطورة على العلاقة الكرديّة ـــ العربيّة خصوصاً، ومعكوسَ الفائدة على الحراك الاحتجاجيّ السوريّ عموماً:

أوّلاً: بسبب تعذّر تبلور هويّةٍ وطنيّةٍ سوريّةٍ جامعةٍ مُتعالية على الانتماءات الأصليّة، بالإضافة إلى نسيجٍ مجتمعيٍّ مرضوضٍ عموديّاً، فإنّ المقاومة الشعبيّة في الوضعيّة السوريّة لم تستطع أن تشكّل صيغةً وطنيّةً مُشتركة،إذ كانت محليّةً موضعيّة المَنشأ،و متلوّنةً بثقافة المنطقة التي انطلقت منها، كما أنّها تفعّلت نتيجة التبدّلات السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والنفسيّة والمذهبيّة ضمن البيئة التي تتعرّض للعنف، سواءٌ أكان هذا العنف ماديّاً مُجرَّداً أم ثأريّاً مُشخصَناً، لذا لا تستطيع أن تنقل مقاومةً مسلَّحة من بيئةٍ تجاوزت الظروف اللازمة لالتجاء الناس نحو التسلّح، إلى بيئةٍ لم تمرّ بعد بتلك الظروف نفسها، ثمّة وضعٌ مركّبٌ يؤدّي إلى التسلُّح وليس العكس.(بخلاف المناطق السوريّة الأخرى حصل انتعاشٌ اقتصاديٌّ في المناطق الكرديّة بسبب التفجّر العمرانيّ والنزوح الأهليّ من مناطقَ منكوبةٍ كدير الزور وحمص وهذا بالتأكيد سيؤثّر على السلوك السياسيّ). إذا كانت قيم السلميّة صعبة التطبيق من فوق على جماعةٍ أهليّة تكوّنت آليّاتٌ ذاتيّة خاصّة بها، نتيجةَ تعرّضها لعنفٍ مجنون، فإنّ قيمَ التسلّح أيضاً صعبة التطبيق على جماعةٍ أهليّةٍ أخرى لم تتعرّض للكميّة نفسها من العنف (بنوعيه المادّيّ والرمزيّ) وما زالت تشهد مظاهراتٍ سلميَّة.

ثانياً: اصطباغ الصُّلب الأيديولوجيّ للمقاتلين المسلّحين الذين دخلوا “رأس العين” بلونٍ سنّيٍّ راديكاليّ طاغٍ، وتفسيرهم للصراع في سوريا وفق منظورٍ طائفيٍّ فئويٍّ ضيّقٍ، “كجبهة النصرة” التي هي تنظيمٌ عدميٌّ طهرانيٌّ إسلاميٌّ، ينزعُ الثقة الإيجابيّة من كلّ الوجود، ويفسِّر الصراع في سوريا بأنّه سنيٌّ ـــ علويٌّ، وهذا لا يناسب المزاج الكرديّ العامّ ذا التديّن الشعبيّ التقليديّ البسيط والتوجّه العلمانيّ الواضح. الطاقة الاعتراضيّة الكرديّة ضدّ النظام السوريّ ليست مذهبيَّة المنشأ، بل كون النظام السوريّ مستبدّاً وشوفينيّاً ويحتكر السلطة والثروة والفضاء العامّ.

ثالثاً: تراكبُ الصراع (جيش حرّ ـــ  حزب العُمَّال الكردستانيّ) على التوتّر الكرديّ ـــ العربيّ اللامرئيّ والكامن، المسألة الكرديّة والعلاقة العربيّة ـــ الكردية لا تقلُّ خطورةً عن المسألة الطائفيّة في سوريا، وهي ليست علاقةَ ودٍّ وعشقٍ وغرام كما تدّعي الأدبيّات التي تفتخرُ بالـــ”وطنيَّة السوريَّة المُنجزة” ليلَ نهار، ثمّة أزمة لا ثقة أهليّة واقعيّة بين الأكراد والعرب، ولا تُحلّ بالابتسامات الصفراء والخطابات البلاغيّة، أوّلُ خطوةٍ لحلّ الإشكالات هي إخراجها للعلن.

رابعاً: الحساسيّة الكرديّة التاريخيّة العامّة تجاه التدخّل التركيّ، الحاضن الإقليميّ الأساسيّ للمعارضة السوريّة السياسيّة والمقاتلين المسلّحين الميدانيّين، وهذه الحساسيّةُ الحادّة لا تقتصر على حزب العمّال الكردستانيّ فقط كما يذكر بعض المحلّلين، بل هي مغروسةٌ في الوجدان الشعبيّ الكرديّ لأسبابٍ تاريخيّةٍ لا تستطيع هذه السطور ذكرها جميعاً، وكلّما ازداد التدخّل التركيّ في الشأن الداخليّ السوريّ، زاد الالتفافُ الأهليّ الكرديّ حول حزب العمّال الكردستانيّ وكسبَ سلاحهم شرعيّة أكبر. وأخيراً لا بدّ من القول إنّ كلّ سببٍ يؤدّي إلى نتيجةٍ وذلك في كلّ الظواهر، الكونيّة الطبيعيّة والبشريّة المجتمعيّة، وتكون النتيجة مرتبطةً بالسبب إلى حدٍّ معيّن، حتّى تتشكّل داخل تلك النتيجة نفسها، آليّاتٌ و ميكانيزمات ذاتيّة خاصّة بها، مستقلّةٌ تماماً عن السبب الذي أفرزها، هنا تنفكُّ النتيجة عن السبب، وتصبح تلك النتيجةُ سبباً لنتيجةٍ أخرى، وهكذا إلى ما لا نهاية، فإذا كان الفقر يؤدّي إلى الجريمة، فمعالجة الفقر لا تؤدّي بالضرورة إلى القضاء على الجريمة في المجتمع، من هنا تكمن الخطورة الحقيقيّة في إلقاء كامل اللوم على النظام السوريّ عند قيام المقاتلين المسلّحين بانتهاكاتٍ خطيرةٍ لحقوق الإنسان. رصف الأوصاف ضدّ النظام السوريّ مريحٌ ومطمئنٌ، ويعفينا من مسؤوليّة النقد المستمرّ الذي هو وحده كفيلٌ بتشكيل غريزةٍ أخلاقيّة داخل وعي تلك الكتائب وتمنعهم من الارتكاب.

نقد تأصيل الحداثة في القوميّة الكرديّة

ليس ظاهرةً عابرةً الإنكارُ الواثق لبعضِ المثقفين الكُرد لانتشار تيّاراتٍ إسلاميّةٍ متطرّفةٍ أو جهاديّةٍ عدميّة في المجتمع الكرديّ السوريّ مستقبلاً، بل هو في العمق تكريسٌ لتلك البديهيّة التي أصبحت راسخةً في الوعي الكرديّ الراهن، التي فحواها أنّ شيئاً جوهريّاً وأصيلاً كامنٌ في أساسِ القوميّة الكرديّة، يعاكسُ تماماً «التطرّف الجهاديّ» الذي هو خاصٌّ بالآخرين الظلاميّين وحدهم. فنحن الكُرد «حداثيّون» من الأزل وإلى الأزل، والموضوعُ ليس متعلّقاً أبداً بتراكماتٍ تاريخيّةٍ متدرّجة وعوامل موضوعيّة وواقعيّة وذاتيّة، بل هو امتيازٌ ثقافيٌّ وسحرٌ جينيٌّ وحقيقةٌ فوق تاريخيَّة. هذه النظريّة لا تقلّ عنصريّةً وتصلّباً وتبسيطاً عن أغلب السرديّات القوميّة المُتعالية على التاريخ، كالتغنّي بسرمديّة العروبة في نصوص ميشيل عفلق الإنشائيّة أو الحماسة البلاغيّة في خطابات جمال عبد الناصر.

ساهم في تكريس نظرة التفوّق الذاتيّة هذه عاملان أساسيّان، الأوّل هو الظلم التاريخيّ الخاص الذي تعرّض له الكُرد منذ تسلّم حزب البعث السلطة، وحتّى قبل البعث، مما منع تطوّراً تاريخيّاً صحيّاً ومُسيّساً للوعي القوميّ الكرديّ. فالاضطهاد المُكثّف لجماعةٍ أهليّة على أساس صفةٍ محدَّدة سيولِّد شعوراً عاطفيّاً إطلاقيّاً يؤكّد فَرادة تلك الصفة واستثنائيَّتها. أمَّا العامل الثاني فخطابٌ عربيٌّ تبجيليٌّ وبطوليٌّ مادِحٌ للمكوِّن الكرديّ (هو مكافئٌ تماماً للخطاب العنصريّ الذي ينكِرُ الوجود القوميّ الكرديّ)، يؤكّد أنّ تحرّك الكرد في سوريا سيكون فيصلاً حاسماً، وسيغيّر كلّ الموازين الإقليميّة والدوليّة وسيعجّل في سقوط النظام، وهربِ بشار الأسد من القصر الجمهوريّ! من دون الأخذ بالعوامل الموضوعيّة والواقعيّة الموجودة، كتفتُّت المجتمع الكرديّ سياسيّاً، وهامشيّة المناطقِ ذات الغالبيَّة الكرديَّة في سوريا، وبُعدها عن مراكز السلطة الأساسيّة في دمشق، وعدم تسلّم الكرد إداراتٍ حاسمةً ومفصليّة في الجيش ووزارات الدولة، وضعف اندماج المكون الكرديّ في المتّحد الأهليّ السوريّ العامّ بسبب الشعور بالخيبة والخذلان بعد انتفاضة 2004، وعدم وجود رأس مالٍ كرديٍّ مستقلٍّ مُكتمِل الملامح، إضافة إلى وجود أحزابٍ كرديّة سوريّة هي رديفةٌ سياسياً لأحزابٍ كرديّة غير سوريّة، مما يُخضع القرار السياسيّ لتلك الأحزاب إلى أجندات فوق وطنيّة وتشابكات إقليميّة دقيقة جداً.

هذه النرجسيّةُ القوميّة الكرديّة التي بدأت بالتبلور، يجب أن تتعرّض لتفكيكٍ حادٍّ ونقدٍ منهجيٍّ من الإنتليجنسيا الكرديّة الحاليّة، لخطورتها على المجتمع الكرديّ الداخليّ أوّلاً، فهي مُرشَّحةٌ لأن تكون السند النظريّ لأيّة فاشيّةٍ قوميّةٍ مُحتمَلةٍ، وهذا النقد ليست له علاقةٌ بالنضال الوطنيّ الكردي المحقّ لإزالة كلّ المظالم عن الشعب الكرديّ، بل هو يصبّ في خدمة النضال الكرديّ المحقّ لنيل الحقوق المشروعة.

خطأ معرفيٌّ وتاريخيٌّ وواقعيّ النظر والتعامل مع المكوّن الكردي ككتلةٍ أهليّةٍ مُتجانسة وصلبة لا تعاني من صراعاتٍ طبقيّة (غنى ــ فقر) أو ثقافيّة أو جهويّة (ريف ـــ مدينة) أو حتّى عشائريّة قبليّة، بمعنى أنّ التحسُّس القوميَّ لجمالية هذا العرق الاستثنائيّ والخاص كافٍ لتحطيم كلّ مناهج السوسيولوجيا ومبادئ علم الاجتماع ونظريّات السياسة. الشعور القوميّ البسيط ليس كافياً أبداً لتفسير كلّ ظواهر المجتمع الكرديّ السوريّ، والكرديّ ليس إنساناً مطلقاً ومنجزاً فوق حركة التاريخ غير خاضعٍ لقوانين التحليل المركّب.


المقالة ضمن الكتاب:
[gview file=”http://drsc-sy.org//wp-content/uploads/2013/11/dictatoridm-strategy.pdf”]

دارا عبد الله

كاتب وشاعر كوردي سوري، مقيم في ألمانيا