مقال

الحرب في سوريا وعنف المرأة المقدس

أفرزت تناقضات الحرب في سوريا مجموعة من الهياكل والأنماط الاجتماعية والسياسية والدينية والثقافية في بنية المجتمع أدت بدورها إلى ظهور تصنيفات وتقسيمات وظيفية جديدة وبالتالي خلقت أشكال من الهويات السياسية والدينية والثقافية الجديدة. كل هذه التناقضات والتبدلات جعلت من مطلب الديمقراطية- الذي كان المجتمع يطمح للوصول إليه، عبر إعادة تحديد العلاقة ما بين الحاكم والمحكوم والانتقال من ثم إلى حكم تعددي سياسي وثقافي واجتماعي يعكس المشاركة العامة لكل أفراد المجتمع دون إقصاء أو استبعاد لأي طرف أو أقلية أو جماعة أو حزب- مطلباً صعب المنال. فالحرب الدائرة انتهت إلى تكوين جملة من العلاقات الإنسانية أدخلت المجتمع في صراع حول هوياتهم الدينية والسياسية والاجتماعية والطائفية والمحلية. تجلى أخيراً في سيادة نمط شمولي واحد ليمنح نفسه امتيازات يحاول عبرها فرض سلطته على كامل المجتمع السوري ونعني بهذا النمط سيطرة الجماعات المتشددة دينياً التي استبدلت فكرة الدولة الديمقراطية بفكرة الدولة الإسلامية، هذا التحول الذي بات واضحاً في أبعاده الخطيرة على المجتمع وعلى نمط العلاقات السياسية والاجتماعية والثقافية.
وعلى الرغم من الصور المتعددة للتناقضات والصراعات العنفية في المجتمع السوري، فإن ما يهمنا هنا هو التوقف عند الدور الذي أنيط بالمرأة في ظل هذه الجماعات المتشددة، والأمر هنا لايتعلق بتصور تأويلي يتم اضفاؤه على وجود المرأة بوصفه عنفاً وإنما يتمثل في ظاهرة نجد لها أرضيتها في العالم الواقعي. فتجربة الحرب دفعت بالمرأة إلى نوع جديد من الخبرات والتفكير والاهتمام أنتجت بدورها مهام وظيفية جديدة اتسعت لاحقاً لتتسم بطابع عنفي أكبر. من هنا نحاول تقديم تفسير يجلي لنا الغموض الذي اكتنف مشاركة المرأة لنكشف بالتالي عن عالمه ذو أبعاد جديدة في علاقتها بذاتها وبالآخر وبوجودها.
ومع قلة الدراسات – إن لم نقل ندرتها- التي تتناول وضع المرأة الجديد في الحرب فإن المرء بداية يبقى محتاراً بصدد مسألة العنف الذي قد تمارسه المرأة. بيد أن نوعاً من التأمل والنظر الفلسفي يجعل هذه المسألة الغارقة في الاضطراب والحيرة أكثر تحديداً ووضوحاً. ومن ثم يمكن الوصول لفهم الأسباب والدوافع الكامنة وراء الممارسات العنيفة للمرأة والكشف عن تجلياتها في الواقع في محاولة لتجاوزه عبر الوعي بضرورة تحرر المرأة من ذلك القيد الداخلي والخارجي الأقوى والأكثر خفاءاً في زمن الحرب ونعني به العنف الذي أعاد تشكيل عالمها بكيفية مختلفة جديدة. لذا كان السؤال هو كيف يمكن لنا التمعن في هذه الظاهرة وتبيان مظاهرها المتعددة وآلياتها وخصائصها.
فلو حاولنا النظر في طبيعة دعوة الجماعات الدينية المتشددة للمرأة بضرورة المشاركة في الحرب أسوة بالرجال، لبدا لنا بوضوح أن هذه الدعوة تنطوي على تحويل للمرأة إلى استثمار ديني اجتماعي سياسي، وبالتالي لسنا أمام دعوة للمشاركة في النضال من أجل الحرية والمساواة بين الجنسين، وبناء مجتمع ديمقراطي تسعى فيه المرأة لتحقيق استقلالها الثقافي والديني والاجتماعي والسياسي، وإنما أمام ظاهرة تحاول إلغاء كل أشكال الوجود الخصوصي للمرأة لصالح الجماعة الدينية المتشددة. ولاشك أن تهديد الحرب خلق الفرصة والحاجة والمبرر الذي اكسب هذه الدعوة مشروعيتها متسترة خلف فتاوى المرجعيات الدينية للجماعات المتشددة ليعيد شرعنة الأحكام الخاصة بالمرأة محدداً موجبات فعلها ومغيراً بذلك كامل نظام المحظورات الاجتماعية والدينية الثقافية في بنية المجتمع.وبمقتضى ذلك نتوقف عند بعض المظاهر والسمات التي تتعين فيها الممارسات العنفية للمرأة والتي تسترعي الانتباه مع الإشارة إلى أن ارتباطها بظروف الحرب وصيرورتها بالإضافة إلى تغير المسببات المتعلقة بالعالم الخارجي كل ذلك يجعل من إمكانية تحديدها الدقيق أمراً بالغ الصعوبة.
إن أول مظهر من مظاهر العنف المتجلي في سلوك المرأة هو العنف الإيديولوجي الديني المنطوي على إرادة القتال. ولا يمكن فهم سلوك المرأة في هذا الوضع خارج المعتقد الديني الذي يجعل من العنف موضوعاً لإرادتها يتجلى بدوره في التجربة الذاتية للمرأة بوصفها ذاتاً تنتهك حرمة الذوات الأخرى في العالم الخارجي، إذ لا يمكن للمطلع الاستهانة بأعداد النساء الجهاديات المنخرطات في صفوف الجماعات المتشددة، ولعل هذا المظهر العنفي-الجهادي الذي مارسته المرأة في ظل الجماعات الدينية المتشددة كان أسوء أنواع العنف الممارس من المرأة ضد المرأة. وهو ما تجلى في الدور الرقابي والعقابي الذي تولته الجهاديات تحت مسمى الشرطة الأخلاقية النسائية والمتمثل في كتائب الخنساء – أول تنظيم نسائي مسلح في سوريا ذوات الزي القتالي الإسلامي إذ تتولى المرأة في هذه الكتائب بنفسها كل عمليات الاعتقال والتعذيب التي تمارس. هكذا ظهرت المرأة بمتضمنات غريبة على نحو يتعين فيه العنف بشكل مباشر في إرادة القتل دون أي حد لممارستها العنفية في الواقع. وفي هذا المظهر العنفي يبقى فهم المرأة لذاتها باهتاً مضطرباً فهي تدرك ذاتها فقط عبر امتلاك هوية صارمة تحاول من خلالها أن تتطابق مع النموذج الديني المتصور للجهاديات اللواتي عليهن مشاركة الرجال المهام القتالية كواجب شرعي ديني.
من هنا كان العنف الذي تتشارك فيه المرأة مع مثيلاتها من المقاتلات أسوة بالمقاتلين الرجال ينطوي على إرادة مباشر في القتل عبر استعمال القوة وبالتالي إلحاق الأذى والضرر بالآخرين.
إن الممارسات العنفية للمرأة في ظل المقدس الديني اكسبها دوراً ذا طبيعة محاكية للدور الموكل للرجل في الحرب. وهكذا يتخفى العنف مجدداً خلف فكرة زوال الاختلاف ما بينها وبين الرجل استناداً إلى المشروعية الدينية الثقافية الاجتماعية. وإن كان لنا أن نتلمس وجود بعض الفروق ما بين الرجل والمرأة فستكون فروق عائمة وذلك نتيجة لتحول النظام الثقافي الديني للقواعد والمحظورات نحو أشكال ونشاطات مختلفة جديدة.
إن انعدام الفروق والاختلاف ما بين المرأة والرجل يجعل من العنف فعلاً تراجيدياً للمرأة تنصرف فيه إلى ممارسات وسلوكيات ذات طبيعة ذكورية بدرجات متفاوتة. فزوال الاختلافات والفروق يساعد على توزيع الأدوار في الحرب ويجعل المرأة خاضعة لقيم الذكورة بشكل غير متكافئ. الأمر الذي يحول العنف من حالة لاعقلانية إلى رغبة حقيقة لدى المرأة وموضوعاً لإرادتها تنافس به الرجل، فتفقد المرأة بذلك نفسها ووجودها الخاص في جهاد مقدس يحولها بالتالي إلى كائن ضائع وضحية من ضحايا الحرب .
ولما كانت اللغة هي المدخل لفهم آليات العنف الكامن وراء التمثلات الثقافية الدينية الجديدة التي أفرزتها تناقضات الحرب في عالم المرأة، فإننا نلمح مظهراً ثانياً للعنف يتجلى على مستوى العلاقات والارتباطات الدلالية اللغوية.
فالمتأمل في مفهوم “الحرائر”-وهو مفهوم يعود إلى زمن الرسول محمد ص –والذي ظهر مجدداً في المجتمع السوري لايخفى عليه ما تضمنه هذا المفهوم في زمن الحرب من مخزون عنفي يستمد مشروعيته من الانتماء الاعتقادي الديني والاجتماعي والثقافي بوصفه شكلاً من أشكال الحضور يفرغ المرأة من كل مظهر للتعدد والتنوع والاختلاف في محاولة لاستنساخ تجربة قديمة يعاد انتاجها في صور جديدة. إذ يكشف هذا المفهوم عن موقف يتستر خلف فكرة عن المقدس الديني يعين العلاقة ما بين المرأة ومثيلاتها من النساء في اختلاف التوجه الإيماني وبكيفية عنفية في الواقع متمثلة في ممارسات سلوكية وأفعال ذات طبيعة اقصائية استبعادية ومن ثم إلغائية تحاول مصادرة حق الآخرين في الاختلاف والتنوع وحتى الحق في الحياة . وهو ما تجلى في مظاهر متعددة أفرزت بدورها تخصيصات وتمييزات لغوية رمزية منها: التمييز ما بين المرأة المؤمنة والكافرة- الحرائر مقابل الإماء – الجهادية المقدسة مقابل المدنية المدنسة- وهو ما أنعكس على المستوى الواقعي في التمييز -على سبيل المثال – ما بين (حرائر الشام التابع لجبهة النصرة-وما بين الجهاديات التابعة للدولة الاسلامية في الشام والعراق الملقبة بداعش).
ومن الواضح أننا هنا بإزاء إعادة إنتاج تاريخ خاص جديد للمرأة عبر اللغة الرمزية التي تتمثل الوجود استناداً إلى موقف ايديولوجي ديني متشدد يميز العلاقة ما بين الرجل والمرأة من جهة وما بين المرأة والمرأة ذاتها، لا على أساس التساوي في الكينونة وإنما على أساس المفاضلة بينهما. ومع ذلك وعلى الرغم من هذه التمييزات في العلاقة إلا أن اللغة تشير في حقيقة الأمر إلى رغبة في تحديد وجود المرأة الجديد بوصفه وجوداً عرضياً تابعاً للرجل وخاضعة له في الواقع الفعلي متضمناً نوعاً من القهر والنظرة السلبية الدونية للمرأة. وبالتالي هو مظهر من مظاهر العنف يعكس نوعاً من الاضطهاد وإن كان في صورة جديدة.
بيد أن العنف ذاته يتحول بوصفه تجربة نفسية وطاقة عدوانية كامنة في المرأة إلى فكرة عقائدية تتجلى في حالة من التقديس الإيماني المطلق، فيتبدى سلوك المرأة العنفي على إنه فعل مقدس وبالتالي تصبح المرأة جزءاً من منظومة دينية ثقافية سياسية اجتماعية تتلائم مع التصورات المتشددة للجماعات الدينية.
ومن ثم فإن هذا الفعل العنفي يتأسس على خطاب يبرر الظاهرة ذاتها –ظاهرة نكاح الجهاد- بوصفها حالة من حالات التواصل والدعم الروحي يتوجب على المرأة ممارسته في الحرب متلحفة بثوب المقدس الخارج عن كل مألوف في الجدل الدائر حول تقييدات الحرام والحلال، المقدس والمدنس، ضمن الاعراف الاجتماعية. إذ تجري ممارسات العنف الجنسي هنا في إطار موقف فكري عام يتم فيه اعتبار الجنس فعلاً مقدساً. ومن الواضح أن المعرفة التي تمتلكها المرأة عن نفسها هنا هي معرفة مرضية تتسم بالنظرة السطحية لذاتها بوصفها جسداً شهوياً تقتصر مهامها على إمتاع الرجال فحسب وبالتالي تكشف عن ذاتها لا ككائن وإنما كشيء من الأشياء. لتغدو المرأة بذلك إرادة مستلبة تقوم بالمشاركة في ظاهرة سلبية تخضع فيها لسلطة تشرع لنفسها التحكم بمصيرها تحت مسميات دينية.
وعلى الرغم من إمكان تحديد الممارسات العنفية للمرأة في مظاهرها المتعددة سواء منها المتجلية في فعل القتال وزوال الاختلافات الفروق ما بينها وبين الرجل أو على مستوى اللغة فإن لنا أن نشير أن هذه المظاهر تعكس في النهاية خضوع المرأة لكل أشكال الاستغلال والانتهاكات الجسدية والروحية والنفسية الأمر الذي يفضي بدوره إلى تدهور الوضع الإنساني للمرأة في ظل التيارات الإسلامية الجهادية الساعية لفرض أنظمة اجتماعية اقتصادية وسياسية متطرفة تعزز سلطتها الدينية.