مقالملفات

ملف “سوريا إلى أين”: 1- سؤال الهزيمة والانتصار

ملفّ مفتوح – مجلّة صُوَر ومركز دراسات الجمهورية الديمقراطية

الافتتاحية: سوريا ..سؤال الهزيمة والانتصار

الانتصار والهزيمة في سوريا” يطرح الكثير من الأسئلة والتحدّيات، ويُنذر بكوارث عديدة، فهل سيكون العالم على مستوى المسؤولية؟ سؤال ستبيّن الأيام القادمة أجوبته الصعبة، حيث تتنامى الحاجة الآن في ظلِّ المأزق الكبير الذي تعيشه سوريا على كلّ الصّعُد والمستويات إلى الحديث بكل شفافية عن حالة الهزيمة والانتصار في سوريا عن “هزيمة الثورة”، وانتصار النظام وحلفائه. بعد أن أخذ صوت السلاح يغطّي على صوت السلام وأصوات المطالبين بالحرّية والديمقراطية.

 نعم هُزِم السلاح، لكن أين صوت السلام والديمقراطية في سوريا، في ظل حالة إحباط عامة، من أداء المعارضات على أنواعها، ومحاولة تعويم النظام دولياً من قِبل حلفائه وبعض الدول الإقليمية، خلقت حالة من السوداوية في أوساط المثقّفين والديمقرطيين والسلميين بفقدان الأمل في أي عملية تحوّل ديمقراطي في سوريا؛ وهو ما جعلنا نطرح على بعض الكتّاب الذين يشغلهم الشأن السوري والمهتمّين بواقعه ومستقبله، ومنها: هل نعيش هزيمة الثورة السورية فعلاً؟ وإن كان هذا هو الحال، فهل هي نهاية مطاف المطالبة بالديمقراطية والمشاركة السياسية؟ وهل ستنجح روسيا -المفوّضة دولياً في سوريا- بالقضاء على كل إرادة حرّية وديمقراطية، وإعادة بناء نظام وتعويمه دولياً ؟

وإذ ننشر المقالات التي وردتنا نفتح ملفّ “سوريا إلى أين”، على أمل أن يبقى مرافقاً لنا عبر أعداد قادمة ليُتاح لنا طرح مزيد من الأسئلة بنفس الاتجاه، على مزيد من الكتّاب، منها ما له علاقة بمصير الاحتلالات المتعدّدة في سوريا، والصراع الإيراني الإسرائيلي على الأراضي السورية، وإن كان يمكن الانتهاء من الإرهاب دون الانتهاء من الاستبداد…

إذاً.. هي بداية نأمل أن يجدها قرّاؤنا موفقة، وندعو من خلالها أصحاب الرأي لمراسلتنا للاشتراك في الملفّ المفتوح لطرح قراءتهم للواقع السوري وتوقّعاتهم لمستقبله، دون شرط من قبلنا إلا الانحياز للناس في مطالبهم بالحرّية والديمقراطية.

هل انتهت الثورة؟ العنف بديلاً للحلّ السياسي/ عمر بقبوق

 لا يمكننا أن ننكر أن النظام السوري وحلفاءه حقّقوا في الأعوام الأخيرة انتصارات عسكرية، مكّنتهم من استعادة السيطرة على معظم الأراضي السورية التي استولت عليها الفصائل المعارضة والتنظيمات الإسلامية المتطرّفة قبل العام 2016. ولكن هزيمة المعارضة المسلحة في الحرب لا تعني بالضرورة نهاية الثورة السورية وهزيمتها.

 ولعلّ الأحداث الأخيرة في الداخل السوري تثبت أن االحراك الثوري مازال مستمرّاً، حتى في شوارع المدن التي قام النظام بـ”تحريرها من الإرهاب”، ففي يومي الجمعة والسبت 25 و26 /8 / 2018، نظّم عشرات المدنيين احتجاجاً وتظاهرة متنقّلة في أحياء درعا البلد، التي أصبحت تحت سيطرة قوات النظام نتيجة “اتّفاق التسوية” الأخير الذي أُبرم بين الفصائل والنظام برعاية روسية، ورُفع في المظاهرات شعار إسقاط النظام، وعبّر المشاركون عن تمسّكهم بمبادئ الثورة، لتنسف تلك الهتافات كل ما يروّج له إعلام النظام عن نهاية معاكسة للحراك الشعبي في البلاد.  وكذلك، فإن ما حدث في ساحة الأمويين في دمشق من احتجاجات طلابية، على خلفية إلغاء المرسوم الرئاسي المتعلّق بالدورة التكميلية لطلاب الجامعات، يوحي بأن النظام لم يعد قادراً على ضبط تحرّكات الشعب السوري في مناطق سيطرته، كما يريد، وخصوصاً أن هذه المظاهرة تمّت بعد أن قامت صفحات إعلامية موالية للنظام السوري بتهديد المشاركين بشكل مباشر باتّخاذ الإجراءات اللازمة، والتي يُقصد بها الاعتقال.

وصحيح أن الحديث عن انتصار الثورة وإنجازاتها في الوقت الحالي، يبقى رومانسياً ولا يمتّ للواقع بصلة؛ لكن وجود عدد كبير من السوريين الذين ما زالوا يؤمنون بوجود الثورة، ويوثّقون جرائم النظام ويفضحونها، ويتداولون عبر صفحاتهم الافتراضية منشورات لا تتوافق مع الخطاب الإعلامي للنظام الشمولي، دليلٌ على أن الثورة مستمرّة حتى اللحظة، وأن ممارسات النظام القمعية وانتصاراته العسكرية لم تُفلح بإخماد شعلة الثورة، خصوصاً أن الحراك لم يعد يقتصر على شكل محدّد كما يظنّ البعض، فهو لا يقتصر على ممارسات الناشطين في العالم الافتراضي، أو ما يقوم به السوريون في منافيهم بالخارج من مؤتمرات ووقفات احتجاجية، بل مازال المعارضون نشطين حتى في الداخل السوري، وضمن مناطق سيطرة النظام.

والحال أن الثورة بدأت سلميّة، فلم يلجأ المتظاهرون إلى حمل السلاح، ولكن إعلام النظام السوري عمد منذ البداية إلى ربط مفهوم الثورة بمفهوم الإرهاب والتخريب، ضمن ما يتوافق مع روايته الإعلامية القائمة على فكر المؤامرة؛ وعلى الرغم من أن نسبة كبيرة من الناشطين كانوا ضد رفع السلاح منذ البداية، وأن التنظيمات الإرهابية مثل داعش لم تكن جزءاً من الثورة يوماً، إلا أن النظام لم يحاول أن يروّج مع كل انتصار عسكري حقّقه بأنه تمكّن من القضاء على الثورة، بل روّج لفكرة عدم وجود ثورة من الأساس.

ومع مرور الوقت بدأت فكرة الهزيمة تتسرّب إلى الناشطين، بسبب هيمنة النظام العسكرية، وقتله واعتقاله لمئات آلاف المدنيين في المدن المعارضة له، وتهجيره لملايين المعارضين؛ فهذه الأسباب جميعها تضافرت لتخلق حالة من اليأس والاستسلام، ولاسيما بعد أن تكفّلت روسيا بالإطاحة بأي جهود دولية قد تؤدّي إلى إنقاذ الموقف؛ فالمعطيات والوقائع كلها لا توحي بالتفاؤل، ولا تبشّر بأن النظام السوري سيسقط بالمرحلة القادمة، ولا تنذر برحيل بشار الأسد أو محاكمته؛ ولكن التفكير بهذه الواقعية لا يعني بدوره الاستسلام لفكرة أن الثورة انتهت، إذ أنه من غير المنطقي اعتبار الهزائم العسكرية للفصائل المعارضة المسلحة، وانتصار النظام وحلفائه على الجهاديين الإسلاميين هزيمةً للثورة، التي لم تكن يوماً حكراً على الجماعات المسلحة!

ويبدو واضحاً أن حالة التشاؤم والانكسار التي بدأت تسود في صفوف المعارضة، هي بالضبط ما يسعى النظام إلى خلقه، ويتجلّى ذلك بوضوح من خلال البرامج والنشرات التي يبثّها إعلام النظام السوري بشكل يومي، والتي تتمحور برمّتها حول فكرة انتصار الأسد وجيشه. ويتزامن ذلك مع تسليم النظام أهالي المعتقلين أوراق أبنائهم، الذين قضوا نحبهم تحت التعذيب في سجونه، وسعي النظام لإغلاق ملفّ معتقلي الرأي والمغيّبين قسرياً، في ظلّ فرض سيطرته العسكرية على محافظات الجنوب السوري، ليحاول من خلال هذه الخطوات رسم معالم النهاية لمسرحيّته الإعلامية، والتي يعزّز بها الانهزامية لدى معارضيه.

لكن النهاية التي يحاول النظام السوري أن يرسمها لأزمته، تبدو غير مقنعة، ولا تتوافق مع الرواية التي تبنّاها وروّج لها؛ فالثورة السورية بوصفها حراك شعبي، نادت بمطالب، أقرّ بشار الأسد بأن بعضها كانت محقّة، يحاول النظام السوري أن يسدل الستار عليها دون أن يحقّق ما سمّاه بالمطالب المحقّة، ليكتفي النظام بالإعلان عن مخططاته للعودة بسورية إلى ما قبل 2011، ويسعى بشكل جادّ إلى إعادة سورية إلى حقبة الثمانينات، من خلال الترسانة الأمنية التي أطبقت أفواه جميع المحتجّين، لتترك للزمن مهمّة طيّ الملفّات المعلّقة، لتنشأ أجيال جديدة في سورية مطهّرة من أفكار الثورة؛ ويبدو أن نظام الأسد يؤمن بقدرته على تشويه التاريخ والعودة إلى عهد الانغلاق، إذا ما سار على نفس خُطا حافظ الأسد في الثمانينات؛ وذلك ما يفسّر العمل المكثّف الذي يقوم به النظام السوري لإغلاق المنافذ المفتوحة على العالم الخارجي، أو ضبطها على الأقلّ، فمنذ بداية العام حجبت العديد من المواقع الإلكترونية في الداخل السوري، وشُرعت قرارات لتلغي “الستالايت”، والاستعاضة عنه بنظام “الكابل” للبثّ التلفزيوني، الذي سيضمن عدم مرور قنوات تقدّم روايات مخالفة لرواية النظام الإعلامية في البيوت السورية.

 

ويبدو واضحاً أن النظام السوري لا يسعى إلى إيجاد حلّ سياسي في الوقت الحالي، فعلى الرغم من تفويض روسيا بملفّ إعادة اللاجئين، إلا أن مسار المفاوضات لا يسير إلا نحو نهايات مسدودة في ما تبقّى من ملفّات على طاولة المفاوضات؛ فالنظام يؤمن بأن أساليبه القمعية قادرة على إنهاء الأزمة. لكن عدم الوصول لحلّ سياسي سيؤدّي بالضرورة إلى العنف، وقد يؤدّي لولادة المزيد من المجموعات والتنظيمات المتطرّفة في الأعوام المقبلة.

نعم، هُزِمنا، ولكن…/ همام الخطيب

  قيل إنّ “الثورة فعل خراب”؛ فعلى الرغم من تبنّي الثورات عند انطلاقها أفكاراً خلّاقة وبنّاءة، إلّا أنّها غالباً ما تصطدم ببنيةٍ ثارت عليها، فيكون لزاماً عليها تفكيكها وتخريبها لتجاوزها. وتختلف صلابة تلك البنى المثار عليها، بحسب عمرها وتجذّرها في نسيج المجتمعات وموازين قوّتها على الأرض، وحجم تشابكها مع مصالح الدول الإقليميّة المحيطة بها والقوى الدوليّة. وقيّد للثورة السوريّة أن تواجه نظاماً متجذّراً في بنى المجتمع عبر احتلاله المساحة البصريّة واللغويّة على كامل الجغرافيا السوريّة؛ فأينما تذهب ترى صور الزعيم وتماثيله، وعبارات الولاء والطاعة والتمجيد والتبجيل، وهو ما كرّست له سلطة الأسد جهدها وماكينتها الإعلاميّة عبر عقود القهر في سوريا، كنوعٍ من البرمجة اللغويّة العصبيّة لأبناء سوريا، ليقبلوا مرغمين بحضور الزعيم في تفاصيل حياتهم برمّتها. وترافق هذا مع تخريب السلّم القيميّ الذي توافق عليه السوريّون قبل الحقبة الأسديّة، وتحنيط فاعليّات المجتمع السوريّ عبر احتلال النظام الفضاء السياسيّ والاقتصاديّ والاجتماعيّ والثقافيّ، إضافة إلى تشابكه بقضايا المنطقة، ولاسيّما القضية الفلسطينيّة والصراع العربيّ الإسرائيليّ الذي جعل منه أسّ خطابه لدغدغة الشعور العربيّ الجمعيّ.

 في الواقع، إنّ الثورة السوريّة لم تتوافق على برنامجٍ سياسيٍّ، إلّا أنّها حملت مطالب شريحةٍ واسعةٍ من الشعب السوريّ اصطدمت مع عنجهية النظام السوريّ ورفضه التغيير، ولو كان على صعيد تغيير بعض القوانين أو موادّ في الدستور، فتدرّجت شعارات المحتجّين بالتساوق مع تصاعد عنف السلطة؛ من شعارات مطلبيّةٍ إلى شعاراتٍ تنادي بإسقاط النظام، إلى محاكمة الرئيس ثم إعدامه. وترافق هذا مع عنفٍ رمزيٍّ من قوى الثورة تمثّل في إحراق وتمزيق صُوَر الرئيس وتحطيم التماثيل، لإزالة القداسة والحضور الرمزيّ للسلطة. ها هنا سقط النظام رمزيّاً وتخطّى السوريّون حاجز الخوف، وبدت سوريا آنذاك كصالون سياسيٍّ موسّع، الكلّ فيه (موالاة/ معارضة) يتداولون الشأن العامّ، بعدما كان محرّماً عليهم الحديث عن غلاء الأسعار.

 وبدأت السطوة الأمنيّة للنظام تتهتّك بالتدريج، حتى المناطق التي كان يسيطر عليها شهدت احتجاجات. وبدأ السوريّون ينتقلون من ثقافة السرّ، حيث مارسوا السياسة لعقودٍ مضت في الغرف المغلقة وهم خائفون أن يكون لجدرانها آذانٌ، إلى ثقافة العلن. كما حاولت الثورة أن تبني فضاءها اللغويّ الخاصّ مستخدمةً مفردات الرفض والتحدّي في مواجهة لغة النظام القائمة على مفردات الولاء والطاعة والتملّق للحاكم.

 وبهذا الشكل تكون الثورة قد أعملت مِعولها في بنية النظام، وكان على سياسيّيها بناء مشروعهم الوطنيّ الديمقراطيّ الذي يحقّق مطالب الثورة في الحرّيّة والكرامة، إلّا أنّهم كانوا دون آمال المنتفضين، على الرغم من أنّ بعضهم حاول إنتاج توافقٍ على مشروعٍ ديمقراطيٍّ، إلّا أنّ قوى إسلاميّة، وعلى رأسها الإخوان المسلمون، كانت تهيمن على قرار مؤسّسات المعارضة عطّلت محاولاتهم تلك. وبدأت المؤشّرات على تفشّي التفكير بالإطار الطائفي لدى مؤسّسات المعارضة منذ وقت مبكّر من عمر الثورة؛ فبينما كان الشعب السوريّ يصيح في الشوارع “واحد… واحد… واحد، الشعب السوري واحد”، كان المجلس الوطنيّ السوريّ ينجز ديكوره الطائفي؛ فمثلاً كان الممثّل عن قوى إعلان دمشق في المجلس الوطنيّ هو “سمير نشار”، بينما دخل آخرون في المجلس الوطنيّ، كتنويعة طائفيّة عن المسيحيّين وعن الدروز، مع أنّهم ينتمون إلى قوى إعلان دمشق التي اختارت “نشار” ممثّلاً لها. وبعدها توالت المؤتمرات والاجتماعات ذات البعد الطائفيّ، كمؤتمر المعارضين العلويّين الذي عقد في القاهرة في آذار/ مارس 2013، ومؤتمر “سنديان” للدروز والذي شارك فيه مجموعة من المعارضين الدروز في تشرين الثاني/ نوفمبر 2014.

وبينما كان يصيح الشباب في الشوارع: “لا سلفيّة ولا إخوان ثورتنا ثورة شبّان”، كان الإخوان المسلمون يستأثرون بقرارات المجلس الوطنيّ ويحاصرون القوى الديمقراطيّة فيه والتي، فيما بعد، غزل معظمها على نولهم، ولاسيّما عندما تشكّل الائتلاف. وزد على هذا كلّه الشلليّة التي هيمنت على البنية الفوقيّة للثورة؛ فمعظم الكتّاب من “منظّري الثورة” أصبح لهم مريدوهم ومنصّتهم الخاصّة بلفيفهم، يردّدون من خلالها تعاليمَ القطب، وهذا حال معظم السياسيّين في المعارضة التقليديّة؛ حيث أصبح لهم أتباعٌ أيضاً، وأحياناً “شبّيحة”.

 في المقابل، كان النظام يعمل على نقل الثورة بالتدريج من دائرة الثورة على الاستبداد إلى دائرة الحرب الأهليّة؛ فشهدنا علمين وجيشين وحاضنتين اجتماعيّتين في سوريا، ومن ثمّ مع تزايد وتيرة العنف والخطاب الطائفيّ على ضفّتي الصراع، دخلنا في مرحلة الفوضى والتشظّي والضياع، وانعدام الخيارات والاستعصاء السياسيّ، وبدأنا نشهد تراجعاً ثم اختفاءً بالتدريج للخطِّ الوطنيّ الديمقراطيّ عن ساحة الصراع في سوريا.

وعندما أطلق النظام “إسلاميّي سجونه”، في لحظةٍ احتاجهم بها لتطييف الحراك في سوريا، ولتبرير تدخّل إيران “ولاية الفقيه” في قمع الحراك، معتمداً مبدأ “سنّيّة الحراك هي تبرير لتدخّل منظومة ولاية الفقيه (الشيعيّة)”، سقط معظم سياسيّي الثورة في هذا الفخّ، وساقوا به؛ فمنّا من قال “جبهة النصرة تمثّلني”، وبعضنا تعامل براغماتيّاً مع الأمر، ومنّا من صمت على تمدّد الفكر الجهاديّ الإسلاميّ داخل نسيج الثورة، معتبراً أنّ مواجهتهم ستكون لاحقاً والأولويّة تعطى لإسقاط النظام.

 نعم، هُزِمنا أيضاً عندما رأى بعضنا أنّ شمسنا قد تشرق من موسكو أو واشطن أو إسطنبول… ففقدنا بذلك رهاننا على القوى الكامنة لدى الشعب الذي هو مصدر القوّة والتفويض والسلطة والتشريع، وأيضاً عندما وضعنا المشكلات خارجنا وتهرّبنا من تحمّل المسؤوليّات، ونقلناها إلى مربّع “الغير”، فهنا المسؤوليّات يتحمّلها الآخر (العدو)، ومن ثمّة تكون الحلول منتظرةً منه، بينما كان معظمنا يراكم مظلوميّاته.

 لكن، صحيح أنّ الثورة السوريّة، إلى الآن، لم تحقّق أهدافها في الانتقال السياسيّ والقطع مع الاستبداد والقهر والذلّ والعبوديّة، إلّا أنّها لم تفشل، كليّاً، في زعزعة أركان وبنى النظام؛ حيث ساهمت في تهتّك بنى النظام العميقة، فبتنا نشهد سلطةً لا تملك إلّا إستراتيجيّة الخراب والتهجير القسريّ والحصار والعقاب الجماعيّ لإخضاع المتبقّي من الشعب السوريّ، بعدما شرّدت الحرب التي قادت دفتها، ملايين السوريّين، وقتلت مئات الآلاف منهم. هذه السلطة الآثمة لم يعد لها من خيارات للبقاء غير الارتهان للاحتلالات لضمان بقائها نيراً على رقاب السوريّين، والسيطرة على أرض من دون شعب. إلّا أنّ هذا لم يكن من دون مقابل طبعاً، فها هو رأس الهرم في السلطة يبدو كضابطٍ من الدرجة الثانية لدى قوى الاحتلال في سورية؛ فليس هناك من حرج لديه أن يذهب بطائرة شحن إلى موسكو من دون مرافقة له أو وفد دبلوماسيّ يمثّل بلده، ولن يتفاجأ عند وصوله إذا لم يجد أقرانه بانتظاره، ليمشي وإيّاهم على السجاد الأحمر، كما جرت العادة في بروتوكولات استقبال الزعماء. وأكثر من ذلك، حيث نسمع بين الفينة والأخرى تصريحاتٍ يخرج بها قادة عسكريّون أو سياسيّون من دول الاحتلال تُذكّر الأسد بفضلهم عليه (لولا تدخّنا لسقط الأسد). ولا يزال الأسد إلى هذه اللحظة يأخذ دور “الجوكر” في لعبة “البوكر” وهو مدرك لهذا الدور ويستمرئه، ويعلم أنّه بهذا الدور يكسب زمناً أطول في السلطة، من دون أن يكون لاعباً، بل ورقةً مهمّةً لدى اللاعبين.

 فسلطة الأسد التي استعادت السيطرة على معظم المناطق الخارجة عن سلطتها، هي تحت تنازع إرادات الاحتلالات في سورية، ومصيرها مرهونٌ بمدى قدرتها على أن تكون مرغوبةً ونافعةً لحلفائها على الأرض السوريّة، إضافة إلى مدى قدرتها على التصدّي للاستحقاقات المقبلة وعلى رأسها ملفّات إعادة الإعمار وعودة اللاجئين والنازحين ومحاسبة مجرمي الحرب، وهو ما يصعب حصوله، في ظلِّ تصادم الإرادات وارتهان سلطة الأسد لقوى الاحتلال، وإيغالها في الدم السوريّ. بينما الثورة حقّقت ما يمكن البناء عليه، وأهمّه عودة الذات الحرّة للفرد السوريّ، وعودة السياسة إلى الشارع وعودة الفرد إلى الاهتمام في الشأن العامّ، وعودة ثقافة العلن بعدما عفّن السرّ بنى المجتمع، وبعد أن كانت سورية، لعقود مضت، تابوتاً مغلقاً. وربما تلك الفوضى التي نشهدها الآن قد تساهم في تكشّف عوراتنا واكتشاف أوهامنا، ومشكلاتنا، علّنا نستطيع بناء وعيٍ جديدٍ قائمٍ على الاعتراف بالهزيمة وتجاوزها لا إنكارها والاستغراق فيها، وهو ما يجنّبنا العودة إلى حقبة ما قبل 2011.

نظام الأسد، انتصار المهزوم / راتب شعبو

ليس من باب تعليل الأمل، أو معاندة الواقع، القول إن في المشهد السوري اليوم خاسر هو نظام الأسد، ورابح هو الثورة السورية.

في الشكل، إن نظام طغمة الأسد ينتصر اليوم، ويستعيد المناطق التي خرجت عن سيطرته يوماً ما لصالح فصائل إسلامية متدرّجة في “إسلاميّتها”، ومتنوّعة في مرجعياتها ومصادر رزقها وولائها الخارجي. أمّا في الجوهر فإن نظام الأسد خسر في صراع بقائه هذا، كل رصيد سياسي وأخلاقي ووطني.

الفصائل الإسلامية خسرت مناطقها واحدة بعد الأخرى، وسلّمت سلاحها الثقيل، وجرى تجميع عناصرها في إدلب التي تنتظر اليوم حلّاً عسكرياً على شاكلة الحلول السابقة في حلب أو الغوطة أو درعا، أو حلّاً سياسياً بوساطة تركية، وفي الحالين تدخل هذه الفصائل الإسلامية كافة، في طور التلاشي. ولكن هذه الخسارة “الإسلامية” هي، في الجوهر، مكسب عميق للثورة، من حيث انكشاف فشل ضروب الإسلام السياسي، وانكشاف الطبيعة المتخلّفة والمستبدّة لفصائله في مناطق سيطرة كل منها. تكسب الثورة حين تنكشف للوعي العام حقيقة أن الإسلام السياسي مقبرة للثورات وحركات التحرّر.

السؤال الذي ينبغي التفكير فيه اليوم: هل فعلاً عبّرت أو تعبّر الفصائل الإسلامية، التي تُهزم اليوم، عن الشعب السوري؟ هل كان صعود هذه الفصائل وسيطرتها على الضفة المواجهة للنظام، تطوّراً طبيعياً أو ضرورياً لنمو ثورة السوريين ضد نظام الأسد؟ هل يشكّل المسار الإسلامي قدراً محتوماً يمتصّ إليه كل طاقة ثورية تسعى إلى تغيير النظام في سورية؟ إن مراجعة مجريات السنوات السورية الأخيرة تبيّن أن هذا الصعود “الإسلامي” كان مصنوعاً أكثر بكثير من كونه تعبيراً عن حقيقة مُراد السوريين الثائرين، وأن السوريين لم يركبوا هذه الوسيلة مختارين، وأن هذه “الصناعة” الموجّهة بالمال الخليجي، والمتّسقة مع سياسات ليست فقط بعيدة عن الثورة، بل ومعادية لها، خنقت في المهد كل أشكال التطوّر السياسي الأخرى في قلب الثورة، ما جعل أمام السوريين طريقاً واحداً لدعم الثورة هو الطريق الإسلامي، بحيث بات أي نقد لهذا الطريق الوحيد المصنوع، يقع تلقائياً تحت طائلة الاتهام بالتذرّع أو النكوص أو الرمادية أو الخيانة أو الارتزاق ..إلخ، بحسب مصدر النقد أو صاحبه.

ليس الكلام عن هذه “الصناعة” أو هذا المنعطف الذي فُرض على السوريين، وحشر ثورتهم في خانة واحدة “إسلامية”، باباً لمديح نقد الإسلاميين من خارج الفعل، أي ليس باباً لمديح صوابية سياسية مستقلّة ومعزولة عن الحدث، فالصواب في السياسة ليس صواباً نظرياً ولا قيمة مهمّة له خارج الفعل والممارسة. كما أن الكلام عن هذه “الصناعة الإسلامية الخليجية”، ليس باباً لإدانة، بل لنقد، وجهات نظر أو مواقف وتحليلات ذهبت باتّجاه مجاراة التيار الغالب والاستفادة من نفوذه وقوته “المجلوبة”. ويجب التأكيد على أن هذا الكلام يتّسع لفهم انسياق شعب كامل وراء تيار إسلامي “مدعوم”، على أمل الخلاص من نظام التمييز والظلم والفساد وإهانة كرامات الناس. الغرض من هذا التدقيق، أو الفائدة المرجوّة منه، هو تلمّس الفارق بين ما يريده السوريون فعلياً (الثورة)، وبين ما صُنع لهم بوصفه وسيلتهم إلى ما يريدون، فساروا معه. والواقع إن تلمّس هذا الفارق هو ما يجعلنا نضع اليد على ما يجب أن يكون كسباً للثورة السورية.

ما جرى في السنوات الماضية ولاسيّما في السنتين الأولى والثانية من الثورة، أن الطاقة الثورية التي تفجّرت في سورية في مطلع 2011، تعرّضت لفعلين تخريبيين، الأول، على ضفة الثورة، هو جرّ هذه الطاقة عبر قنوات إسلامية، راحت تنحو أكثر فأكثر باتجاه التطرّف والجهادية العالمية، والثاني، على ضفة النظام، هو القمع المدروس والهادف إلى تسهيل الفعل الأول وإزالة العقبات من أمامه. بعد فترة من عمر الثورة السوريّة (أقلّ من عامين)، وتحت تأثير هذين الفعلين المتكاملين في المعنى، بات الصراع محصوراً بين قوّتين، قوة محافظة ضد التغيير ومدعومة من حلفاء في الجوار وفي العالم، وقوة تغيير وثورة مؤطّرة واقعياً في قوالب إسلامية متنوّعة، مدعومة علناً من معظم دول العالم. على هذا أصبحنا أمام صراع محروف وغير ثوري، أدّى إلى هدر الطاقة الثورية الكبيرة للسوريين.

القنوات الإسلامية التي حُشرت وتشوّهت فيها الطاقة الثورية السورية، ودخول نظام الأسد وحلفائه الصراع منذ اللحظة الأولى بوصفه قضية حياة أو موت، يكمن في أساس هدر أمل السوريين، وهول المأساة السوريّة.

الحقائق التي باتت واضحة اليوم لمعظم السوريين هي أولاً، إن الإسلام السياسي، بصنوفه المختلفة ولاسيّما منها الجهادي، هو طريق عزل الثورات ودمارها. وثانياً، إن نظام الأسد لا غاية له سوى الاستمرار في الحكم على الضد من كل المزاعم الوطنية أو القومية أو “التقدّمية”، ورغم أنف السوريين. هذه الحقيقة هي الانتصار الذي حقّقته الثورة. وهو انتصار مزدوج: أولاً لأن الثورة تحرّرت من “الإسلامية”، بعد أن طال سجنها في قوالب إسلامية ظلّت تبدو كأنها الأطر الوحيدة الممكنة لحركة التغيير في سورية. ثانياً كونها أجبرت نظام الأسد أن يقف أمام السوريين، والعالم عارياً من كل الخِرَق التي كان يتستّر بها، أكانت قومية أو وطنية أو تنموية، وأجبرته أن يكشف مضمونه “الاستعماري” على الملأ، في استعداده للإقدام على أبشع الممارسات الممكنة بحقّ شعبه، ولو كلّفه ذلك قتل مليون سوري، منهم آلاف ماتوا، بطريقة قروسطية، جوعاً وتعذيباً في السجون. هذا يعني أن نظام الأسد قد سقط أخلاقياً وسياسياً في وعي السوريين، وهي مقدّمة ضرورية لسقوطه الفعلي.

 ما سبق يقود إلى نتيجة منطقية تقول، إن الحاجة إلى تغيير نظام الأسد باتت أكثر وضوحاً في الوعي السوري العام. وفي الوقت نفسه، بات أكثر وضوحاً في وعي السوريين، إن الإسلاميين، العاجزين عن رؤية قصورهم، هم عبء على الثورة أكثر ممّا هم طاقة في صالحها.

الوضع السوري الراهن – آفاق ومهمّات / غياث نعيسة

 يتوه أغلبية السوريين اليوم في تقييم ما يجري في سوريا، وما يجري لهم، بينما يعيش جزء كبير منهم حالة من الشتات والقهر لم يشهد العالم مثيلاً لها منذ الحرب العالمية الثانية؛ فمنهم من يحاول العيش والتأقلم في بلدان اللجوء في أوروبا، وآخرون يعانون في مخيمات اللجوء في البلدان المحيطة بسوريا.

 يضاف إلى ذلك أن الحراك الشعبي العظيم – الثورة الشعبيةـ الذي شهدته البلاد في عام 2011 خَفَت وبدأ بالتلاشي، منذ عام 2013. واليوم، هنالك نحو مليون قتيل ومخطوف ومعتقل وأكثر من الضعف من الجرحى والمعاقين. كما تمّ سحق هيئات الثورة من التنسيقيات إلى المجالس المحلية. ومع نمو أطراف متطرّفة في ساحة الصراع المسلح، مدعومة من قوى إقليمية، أجهز على المقاومة الشعبية التي عُرفت باسم “الجيش الحرّ”.

 لم تعد خريطة تقاسم النفوذ في سوريا كما كانت عليه قبل عامين، فالصورة أصبحت أكثر وضوحاً، ولا يعني ذلك أبداً أنّها صارت أكثر إيجابية؛ فقد زادت مناطق سيطرة النظام وخصوصاً مع استعادته السيطرة على حلب ومن بعدها الغوطة وأخيرا على درعا. بحيث أصبح الوضع الراهن لمناطق السيطرة يتقاسمها النظام وحلفاؤه وهي الأكبر، إضافة إلى مناطق يحتلها أو يسيطر عليها الجيش التركي في شمال غرب سوريا، ومناطق تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية في شمال شرق سوريا، بدعم من التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة، وجيب صغير في التنف شرق سوريا تحول إلى قاعدة عسكرية للقوات الأمريكية، من دون أن ننسى جيوب متناثرة وهامشية لتنظيم داعش الفاشي.

هذا التحوّل في تقاسم مناطق النفوذ، هو تعبير مباشر يعكس صورة حال التدخّل العسكري لقوى دولية وإقليمية في سوريا، ومؤشّر على وضع ميزان القوى فيما بينها، وفي تنيظم علاقات تنافسها وتفاهماتها في آن واحد من خلال اتّفاقات متعدّدة ومتغيّرة أبرزها الأستانا التي تجمع روسيا وتركيا وإيران باعتبارها “دولاً ضامنة” … ما يسمح لها، إلى حدّ ما، ترتيب تنافسها فيما بينها، وتنظيم تدخّلاتها ومصالحها في بلادنا، ويبدو التدخّل الروسي، وإلى حدّ أقلّ الإيراني، أن له اليد الأكبر والأقوى في السيطرة، في حين تقوم الولايات المتحدة، بتدخّل أقلّ كلفة يثبت حضورها كلاعب هامّ في تقرير مصير البلاد، إضافة إلى روسيا وإيران وتركيا. وبهذا يكون السوريون قد خرجوا من المشهد العامّ الذي يتقرّر فيه مصيرهم ومصير بلادهم.

ما يعني باختصار، أن الثورة السورية العظيمة قد هُزمت في بحر من دماء الجماهير السورية، وخراب ودمار فظيعين لبلدات وأحياء ومدن، هذه الحقيقة المؤلمة يرفض البعض الإقرار بها، ويراهن على أنها ما تزال في ” قلوب” السوريين، وفي بعض النشاط المدني لعدد منهم، القابعين في بلاد “الشتات”. والحال، فإن الثورة بصفتها اندفاع الجماهير الواسعة إلى ساحة الفعل في القضايا التي تتعلّق بمصيرها لم تعد قائمة الآن، وهُزمت نتيجة عوامل – ذاتية وموضوعية- عدّة من بينها وحشية النظام، وتكالب أطراف عدّة مدعومة من أطراف دولية وإقليمية، تلك الحليفة للنظام، وأيضاً تلك التي ادّعت عداءها له و”صداقتها” للشعب السوري، وإلا فأين هو الحراك الشعبي وكيف تتجلّى ديمومته؟

إذاَ، هنالك انتصار عنيف للثورة المضادّة المتعدّدة الأطراف وسحق للثورة الشعبية بما يحمله ذلك من ردّة رجعية كبيرة. قول ذلك لا يعني الاستسلام لهذا الواقع المرير، بل يعني فهمه لوضع سياسات ملائمة تسمح بمتابعة النضال من أجل تحقيق أهداف الثورة الشعبية في التحرّر من الاستبداد والمساواة والعدالة الاجتماعية، والتحرّر الوطني من كلّ الاحتلالات والوصاية على شعبنا وبلادنا.

ورغم الهزيمة الدموية للثورة، لكن تأثيراتها عظيمة جداً. فمن جهة، ثمة ملايين السوريين، إن لم يكن كلهم، أصبحوا معنيين بقضايا كبرى لم تكن تعنيهم كلهم سابقاً، إلى أين؟ وما الحلّ؟ وكيف؟ وما تزال تتردّد في العقول كلمات الحرّية والكرامة والمساواة. ومن جهة أخرى، حصلت في البلاد تحوّلات اقتصادية واجتماعية هائلة، هنالك مناطق عمالية وشعبية في أطراف المدن الكبرى (دمشق وحمص وحلب…) قام النظام، عمداً، بسحقها وتدميرها وتهجير أهاليها لتتحوّل إلى مناطق لاستثمارات عقارية للبرجوازية المرتبطة عضوياً بالنظام الحاكم. وهذا في الوقت نفسه يؤدّي إلى تمركز تواجد الجماهير الشعبية في مناطق عدّة في البلاد، بخلاف ما كانت عليه الحال سابقاً، حيث كانت سياسات النظام، منذ عقود، تقوم على تفتيت وشرذمة تواجد المناطق العمالية والشعبية على امتداد سوريا، ومنع تمركزها كمصانع ومشاغل وأيضاً كمناطق سكنية.

 ومن بين تأثيرات الثورة أنها عرّت النظام تماماً، فهو تصرّف كعصابات قاتلة بحقّ السوريين وبعنف مرعب. تُعرّي النظام إلى ما هو عليه حقيقة: عسكر وأجهزة أمن وميليشيات هدفها الوحيد تأبيد حكم طغمة ضيقة من النخب الفاسدة على حساب حياة ومستقبل الشعب السوري. ورغم ادّعاءات النظام بالانتصار النهائي، لكن ما هو أكيد أنه أصبح أكثر هشاشة وضعفاً عمّا كان عليه، واليوم هو نفسه أصبح أسير حلفائه الذين وفّروا له القدرة العسكرية على سحق الثورة، ونقصد إيران والأهم روسيا، لم يعد النظام يملك تماماً استقلاليّته التي كان يدّعيها. فهذه الدول ستخضعه لما ستراه يحفظ مصالحها في سوريا والمنطقة والعالم. فقد أصبح وجوده وبقاؤه ومصيره، إلى حد كبير، ورقة في أيدي هذه الدول الإقليمية والدولية التي، ويجب علينا التذكير، لا يهمّها ولا يعنيها بشيء مصالح الشعب السوري وطموحاته بالحرّية والكرامة.

وفي الوقت نفسه، فإننا نلاحظ ظاهرة عودة النظام، بأجهزته القمعية المتعدّدة، إلى عاداته العنفية السابقة على الثورة، في قمع وقهر الناس في مناطق استطاع النظام تحييدها أو الظفر بتأييد له فيها عبر تخويفها بفزّاعة الإسلاميّين “قاطعي الرؤوس”! خلال السنوات السبع الماضية، ما يفاقم من كره الناس فيها له. حيث إنه بالكاد حينما تهدأ المعارك يعود إلى سابق عهده بقمع وتجويع واضطهاد “حاضنته الشعبية” نفسها. لكن ما إن تهدأ المعارك حتى يندفع الناس في هذه المناطق إلى التعبير بأشكال شتّى عن تزايد حنقها على النظام، ونقمتها عليه لِزَجِّهِ أبناءها في مطحنة دفعها إليها بهدف تأبيد حكمه، واحتجاجاً على قمعه لها واستمرار إفقاره لها، واستشراس وفجور ميليشياته وأتباعه بحقّ عموم الناس. هناك شحنة كبيرة من الكُره والنقمة على النظام في مناطق كان يعتبرها نظام الطغمة موالية له ومدافعة عنه، سترتدّ عليه عاجلاً أو آجلاً.

في المقابل، لم تكن، ما يعرف بالمعارضة “الديمقراطية” واليسارية السورية، أحسن حالاً من النظام. وشكّلت عائقاً وعبئاً على كاهل الجماهير الثائرة، فهذه المعارضة تمزّقت إلى قسم انضمّ إلى النظام أو إلى هيئات تابعة لقوى دولية أو إقليمية مثل هيئة التفاوض والائتلاف، والتي هرولت إلى المشاركة في اللجنة الدستورية التي تطبخها روسيا. ولأن مصير البلاد أصبح ممسوكاً بين فكّي القوى الامبريالية والإقليمية المتنافسة فيما بينها، فإن أياً من هذه الهيئات “المعارضة” لا تملك لا استقلالية قرارها، ولا استقلالية إرادتها.

وقسم آخر من المعارضة الديمقراطية واليسارية بقي خارج هذا الوحل الانتهازي، لكنه بقي مشتّتاً وضعيفاً، واقع حاله هو التالي، هنالك مجموعات وأفراد منها تتواجد في مناطق النظام، وقسم آخر منها يتواجد في مناطق الاحتلال التركي والنفوذ التكفيري الجهادي. وأخيراً هنالك تجربة شمال شرق سوريا، أي منطقة الإدارة الذاتية، وهي تجربة غنيّة وهامّة، لها تخومها ونواقصها التي يفاقمها وضع الحرب الذي تعيشه البلاد، ونرى بأن قضية الديمقراطية في سورية مرتبطة بحلّ ديمقراطي للقضية الكردية، وأن الأخيرة تأخذ أهمّية بيضة القبان في إمكانية وعمق التحوّل الديمقراطي الممكن. إذاً، هنالك ثلاثة قطاعات، ماتزال منفصلة ومنعزلة عن بعضها، لتواجد ونشاط القوى الديمقراطية واليسارية، ولكن ليس هناك تواصل أو تنسيق جدّي ومثابر فيما بينها إلا في حدود ضيّقة، مع تنافس رؤاها وإستراتيجيّاتها ممّا يزيد من ضعفها ووهنها.

 إن استطاع النظام، اللعب على ذلك واستمالة الإدارة الذاتية له، فهذا سيقوّي من قدراته وفرص بقائه واستمرار الدكتاتورية، وفي المقابل، ان استطاعت المعارضة الديمقراطية تشكيل تحالف مع الإدارة الذاتية فإن موازين القوى السياسية والاجتماعية ستتغيّر، إلى حدّ كبير، لمصلحة كفاح شعبنا من أجل الحرّية والديمقراطية والمساواة والعدل الاجتماعي.

 إننا نعتقد، أن التكتيك الصحيح، في لحظات الهزيمة والردّة الرجعية، هو تكتيك الجبهات المتحدة. ما يعني ضرورة توحيد هذه القوى في القطاعات الثلاثة المذكورة في جبهة او جبهات متحدة حول مهمّات أساسية مطروحة علينا جميعاً، أولها قضية الخلاص من نظام الاستبداد، وإقامة نظام ديمقراطي حقيقي على أنقاضه يقوم على المساواة الكاملة بين السوريين بغضّ النظر عن دينهم أو عرقهم أو جنسهم. ثانياً، قضية إزالة الاحتلالات وإخراج كل الجيوش والميليشيات الأجنبية والطائفية. وثالثاً، تحقيق العدالة الاجتماعية، من دون أن نهمل إطلاقاً، ضرورة الدعوة، والعمل، على وقف هذه الحرب المجنونة ضد شعبنا، وعودة اللاجئين والنازحين إلى ديارهم والإفراج عن المعتقلين والمخطوفين في كل المعتقلات.

  مدى جدّية القوى المذكورة، رغم ضعف معظمها في الوقت الراهن، في تحقيق ذلك، وقدرتها على الفعل بالارتباط مع هموم الناس وكفاحهم، سيكون عاملاً أساسياً في رسم صورة مستقبل شعبنا وبلادنا.

إعادة نظر في واقع وتموضع الثورة السوريّة / عبد الوهاب عاصي

تتّجه أنظار جميع السوريين نحو الشمال السوري على اعتبار أنه سيحسم الجدل حول هزيمة الثورة من عدمها، ويصل الحدّ لدى البعض بأن انتهاء هذا الملفّ سيعطي التصوّر الأقرب لمصير النظام السوري وشكل الحكم في المستقبل القريب للبلاد. يتناول هذا الطرح السوريّون من كل الأطراف المؤيّد والمعارض والذي يقف على الحياد من النظام السوري. وغالباً ما تعتبر وجهة النظر هذه صائبة وفق المنطق العسكري والسياسي ولهذا السبب تُكثّف وتضع الدول الداعمة للنظام جهداً كبيراً لتقديم الحسم العسكري في الميدان قبل الانتقال للحديث الجدّي عن مسار العملية السياسية.

ومن هذا المنطلق لا بدّ من إيلاء أهمّية بالغة للحفاظ على المكاسب الميدانية من أجل حرّية التحرّك بالنسبة لقوى الثورة والمعارضة لتمرير أفكارها وبناء منظومة عمل حقيقية لها على الأرض، وفي هذا الصدد يُنظر إلى الشمال السوري بوصفه آخر معقل عسكري خارج عن سيطرة النظام، وينشط ويعيش فيه الرافضون لحكمه على اختلاف انتماءاتهم الفكرية. والحفاظ على المكاسب الميدانية في الشمال السوري تمهّد الطريق في مرحلة لاحقة للنظر بشكل أكبر من أجل توسيع نطاق الحركة على المستويات الأخرى الفكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، والمقصود هنا على وجه التحديد مناطق شرق الفرات الخاضعة لسيطرة قوات سورية الديمقراطية، وذلك بغضّ النظر عن الظروف الراهنة التي قد تعرقل التوصّل لنتائج مقبولة أو مرضية للجميع.

تذهب بعض وجهات النظر لدى السوريين للقول بأن سيطرة النظام السوري على كامل الجغرافيا السورية لا تعني هزيمة للثورة، لأن هذه الأخيرة لم تقم على حامل القوة العسكرية، وقد يكون هذا التصوّر صحيحاً في حال ثبت أن الحركة والنشاط والحيوية داخل المجتمع السوري، يُمكن أن تعود للتفاعل مع الثورة بالطرق السلمية بعد إحكام النظام لسيطرته، لكن تحقيق ذلك لا يُمكن التنبّؤ به بالدرجة الأولى لصعوبة القياس والاستناد إلى واقع المناطق التي سيطر عليها النظام السوري وفق برامج المصالحات والتي تعتمد على عزل الديناميات المحلية عن ذراع الثورة العسكري، ومن ثم استمالتها باتّجاه مظلّة النظام وإعادتها لحكمه، وبالتالي يُمكن القول إن لم تكن سيطرة النظام السوري التامة على كامل الجغرافيا هزيمة للثورة فهي حُكماً ليست أسوأ الخيارات أمامها في ظلّ تغيّر الظروف.

فرضت العسكرة نفسها على الثورة السورية سواءً بتغذية النظام السوري لها أو باعتبارها ردّ فعل لم يستطع أن يتحوّل لسلاح ردع حقيقي يُمثّل هوية الدفاع الأمني عن الحقوق والمطالب للمتظاهرين السلميين. وبكلا الحالتين أصبحت العسكرة واقعاً لا بدّ من التعامل معها وإن العودة للوراء لا تخرج عن كونها رغبة أو تصوّراً يحتاج لرؤية قابلة للقياس وإستراتيجية للبناء عليها. ودون ذلك لا بدّ من اتّخاذ النظرية الواقعية في السياسة، والتي تدفع باتّجاه الحفاظ على المكاسب من أجل تحقيق الأهداف.

تجادل الثورة السورية لتحقيق أهدافها على عدّة شروط منها القدرة على الحركة والنشاط داخل المجتمع والتأثير فيه وجعله يتطبّع بالقيم والمبادئ التي قامت لأجلها الثورة وبالتوازي إحداث تغيير في السلطة يحقّق الانتقال العادل المنشود، وفي ظلّ وجود النظام السوري قد يكون تحقيق التغيير في المجتمع عسيراً إلى حدّ الاستحالة لصعوبة الحركة، لكن بالمقابل إن الشروط المذكورة آنفاً يُمكن أن تتوفّر ولو نسبياً في الشمال السوري، والشيء الذي يعيق حركتها هو احتكار القوى العسكرية اللامركزية –التي تشكّل سلطة أمر واقع لم تتحوّل بعد إلى ذراع حماية وردع إستراتيجي– لقرار السلم والحرب، وعدم فاعلية النشاط المدني والسياسي لأسباب متعدّدة بما فيها العامل الذاتي. لكن عملية الاحتكار هذه ليست بالشكل الذي لا يمكن التعامل معه، والواقع أن القوى المدنية والسياسية تحتاج إلى إستراتيجية ورؤية واضحة تجعل من تحرّكها ونشاطها داخل المجتمع حيوياً ومؤثّراً، وتضع لنفسها ثقلاً إلزامياً أمام القوى العسكرية اللامركزية، وبالتالي مجادلتها على تحديد مصير قرار السلم والحرب وإعادة فرز أدوار القوى.

إن الحديث عن رؤية واضحة لقوى الثورة والمعارضة السورية المدني منها والسياسي في الداخل خصوصاً والخارج عموماً، يعني البحث عن تشكيل سلطة تشريعية حقيقية تتناسب مع الظروف وبلورة سلطة قضائية حقيقية وتفكيك الارتباط الذي حصل للأفراد والهيئات القضائية مع القوى العسكرية اللامركزية. كل ذلك يساهم في تجسيد هامش وطني سوري ينطلق من نظرية واقعية لا تنفي وجود خلافات أيديولوجية وسياسية ومحاولات تغلغل أمنية دولية في بنية الأجسام والهياكل المتبقّية لمن يعمل تحت مظلّة الثورة السورية.

كما أنه لا بدّ من إعادة توجيه النظر إلى المشكلة الحقيقية التي باتت تواجهها البلاد، والتي تتعدّى عملية التغيير المنشود في النظام السوري، حيث أصبح الصراع قائماً على تشريع الاحتلال الأجنبي، فكل قوة تعمل تحت مظلّة إحدى الدول، وتسير ضمن النطاق الوظيفي لإستراتيجياتها السياسية والأمنية والدفاعية، وصحيح أن النظرة الواقعية تفرض توجيه النظر إلى الاحتلال للدولة السورية الذي يشرّعه النظام، والمقصود هنا التواجد العسكري والاقتصادي والأمني لروسيا وإيران، لكن هذه النظرة ووضع إستراتيجية عمل ضمنها لا يجب أن تغضّ الطرف عن التواجد العسكري الدولي الآخر وحدوده ومشروعيته ووضع الاحتمالات القائمة للتعاون بما يخدم وظائف الاستمرار والبقاء وتحقيق التغيير الديمقراطي المنشود.

خلاصة القول، لا بدّ من البحث عن البقاء في المرحلة الأولى ووضع إستراتيجية عمل ذاتية لتحقيق ذلك، وعدم القطيعة مع القوى العسكرية اللامركزية، بل العمل على عدم تركها وحيدة تحدّد مصير السلم والحرب، ولا بدّ من دفعها لتكون سلاح الردع وجهة الدفاع عن المكاسب الميدانية، ومن ثم تحويلها إلى مؤسّسة دفاع حقيقية تمثّل بنية للتغيير القادمة في مؤسّسات الدولة المنشودة. وعملية وضع إستراتيجية أو رؤية قريبة ومتوسطة مبنيّة على جانب الأمن والحماية تلزم أيضاً وضع إستراتيجية واضحة للتعامل مع القوى الخارجية ومحاربة طموحات الاحتلال لديها.

 إن الإستراتيجية أو الرؤية التي يجب العمل على بنائها، يجب أن تأخذ بعين الاعتبار قضية بناء عقيدة وطنية واضحة بين السوريين الخارجين عن حكم النظام السوري، تأخذ بعين الاعتبار الظروف الاجتماعية الراهنة والمقبلة، ولا تنظر بعين التطرّف إلى الانتماءات الفكرية والأيديولوجية، عقيدة وطنية مبنية على أسس متينة، لا تقاطع الواقع أو تقفز فوقه، ولا تحاول التوجّه لفئة دون غيرها وفق اتّجاه عمودي في المجتمع.