*مشاركات

سورية، أهل الجمر !

افتتاحية مجلة أصوات

أهلُ الجمر، نازحون داخل الوطن، باتوا بلا مأوًى، أو في حالة عوزٍ شديدٍ بعد أن فقدوا كلَّ ما يملكون ويدّخرون، ساقتهم ظروفهم أحيانًا إلى التسوّل، وغالبًا إلى قبول أعمالٍ وضيعةٍ ومذلّةٍ لتأمين قوت يومهم. والأنكى من ذلك، أنّ عقدة الخوف من الملاحقة والاعتقال والتعذيب تتضاعف عندهم؛ بسبب انتماء أغلبيّتهم إلى المناطق المتمرّدة، حتى صار بعضهم يجد الموت أرحم ممّا يكابده من خوفٍ وقهرٍ وجوع.

هنا ظلُّ امرأةٍ، امتصَّ عافيتها التشرّدُ، أمنيتها أن تقي أطفالها الثلاثة صقيع الشتاء، وألّا يطردها صاحبُ بناءٍ قيد الإنشاء من مأوًى لجأت إليه هناك؛ لا يتعدّى زاويةً صغيرةً بين أعمدةٍ عاريةٍ حدّدتها بقايا حجارةٍ وخرقٍ مهملةٍ وبساطٍ عتيق. وهناك طفلان وأمهما، يفترشون زاويةً نائيةً من حديقةٍ عامّةٍ شحيحة العشب والظلال، صنعوا منها ملاذًا يحميهم؛ تلاحقك عيون الصغار بالسؤال عمّا حلَّ بهم، لا حاجة لأن تعرف من أيِّ مدينةٍ أو قريةٍ منكوبةٍ قدموا. فالأماكن والدوافع متشابهة، وثمّة ملايين المشرّدين السوريّين يبحثون عن مأوًى، تركوا مساكنهم وقد حوّلها العنف والقصف البربريّ إلى أطلال، وأغلبيّتهم من الأطفال والنساء، صاروا فريسة قهرٍ وحرمانٍ وانتهاكاتٍ متنوّعة!

هذا أبٌ ستينيٌّ، أمنيته أن يعرف مصير ابنه الذي اختفى منذ أشهرٍ، جاءه من يخبره بأنّه نزيلُ أحد السجون، فصار يواظب كلَّ يوم، على الرغم ممّا يتعرّض له من زجر، على الحضور إلى هناك للسؤال عنه. يجلس بعيدًا عن الحاجز الأمنيّ على حافة رصيف، حتى مغيب الشمس، عساه يلمح وجه ولده بين الذاهبين والغادين. وتلك عجوزٌ تهرول لاهثةً ومتعثّرةً بثقل جسدها، تحاول أن تعترض طريق ضابطٍ مسؤول في أحد فروع الأمن، حيث يوجد ابنها المعتقل منذ أشهر، تحلم بأن تحظى بفرصةٍ لرؤيته أو إيصال بعض الحاجات إليه. تعاطف معها أحد حرّاس المبنى ونصحها بالانتظار على مقربةٍ منه، كي ينبّهها عند وصول رئيسه، ربّما تتمكّن من مقابلته، وربّما يلبّي طلبها ويحقّق لها “هذا الحلم العظيم”. وحالهما كحال عشرات الألوف من أهالي المعتقلين أو المفقودين؛ منهم أسرٌ اختفت برمّتها مع أطفالها الصغار من دون علمٍ أو خبر، وعليك أن تقدّر المعاناة المضاعفة التي يعانيها ذووهم في البحث عنهم، وأنواع الإذلال والابتزاز التي يتعرّضون لها.

هنا امرأةٌ تتمنّى أن تحظى ببعض الطحين والسكر بعد طول حصار، فلم يذق أولادها طعم الخبز منذ أشهرٍ عديدة. ولعلّ مرارة أوراق الشجر التي أُكرهوا على أكلها تسكينًا لجوعهم، أنستهم حلاوة السكر. ليس من ذنبٍ ارتكبته سوى أنّها واحدةٌ من بنات الغوطة المحاصرة، ولدت وتعلّمت وتزوّجت هناك، ولم يعد لديها خيار، بعد أن غيّب العنف زوجها، سوى رعاية أطفالها. وهناك امرأةٌ شابّة تتّشح بالسواد تقف عند باب مقبرةٍ، تتفحّص وجوه القادمين ليقرؤوا الفاتحة على أرواح موتاهم؛ تراها تتحرّك بسرعةٍ، ربّما وجدت ضالّتها، وتعرف بعد حين، أنّها اطمأنّت إلى إحداهنّ واستأذنتها المشاركة في قراءة الفاتحة على روح زوجٍ قتل، ولم تصلها غير بطاقة هويّته ومفاتيح بيتهما المهدّم. قال رفاقه: إنّ عناصرَ أمنيّة سرقت جثمانه قبل أن يتمكّنوا من تكفينه، غالبًا كي يمنعوا مراسم التشييع التي عادةً ما تتحوّل إلى مظاهرةٍ عارمةٍ ضدَّ النظام. وتلك المرأة أمثالها كثيراتٌ؛ فهناك ألوف الأسر والعائلات السوريّة لم تستلم جثامين شهداء، قضوا دفاعًا عن حرّيّتهم وحقوقهم، وأغلبيّتهم لا علاقة لهم بالثورة وأنشطتها.

ثمّ من ينسى ما يسبّبه القصفُ الوحشيُّ بالبراميل، ثمّ رشقات قذائف الهاون العشوائيّة على المدنيّين، من معاناةٍ تشتدُّ في ظلِّ غلاءٍ فاحشٍ وغياب الحدِّ الأدنى من الحاجات الإنسانيّة، الغذائيّة والصحيّة، في ظلِّ انقطاعٍ طويلٍ للتيّار الكهربائيِّ، وشحِّ مياه الشرب، وتراجع الخدمات العامّة؛ وأيضًا في ظلّ ازدياد حالات السرقة والابتزاز بقوّة السلاح، ومن الضغط والإذلال اللذين تسبّبهما كثرة الحواجز الأمنيّة، وفي ظلِّ ما يكابده أبناء المناطق التي خرجت عن سيطرة السلطة من استبدادٍ إسلامويٍّ لا يقف عند إرهاب البشر وإرغامهم على اتّباع نمطه في الحياة وإنزال أشنع العقوبات بحقِّ من يخالف ذلك، بل وصل إلى حدِّ النيل من رموز وأماكن العبادة، وفرض مناهجَ دينيّةٍ تلقَّن للأطفال لا تمتُّ بصلةٍ لمنطق العلوم والمعارف. والأهمّ من ذلك، اعتقال بعض المعارضين واغتيال آخرين والتنكيل بالناشطين المدنيّين والإعلاميّين.

وتاليًا، من ينسى المشهد الشهير لرجلٍ حلبيٍّ مدمّى الوجه، وهو ينادي أطفاله الثلاثة: “براءة، بشرى، بشر، هل تسمعوني يا حبيباتي؟” قبل أن يحوّل إحدى أذنيه نحو ثغرةٍ صغيرةٍ تخترق الأعمدة الإسمنتيّة المتهالكة بفعل البراميل المتفجّرة، متمنّيًا أن يسمع صوتًا، ثمّ يرفع نظره إلى السماء كأنّه يبتهل أو يصلي، يرفض ترك المكان، وينظر بعيونٍ دامعةٍ إلى صديقٍ له يحاول أخذه بعيدًا عن الدمار، كأنّه يستجدي منه محاولةً أخرى، قبل أن يجهش بالبكاء، ويلتقط أنفاسه ليعاود النداء من جديد.

مع تصاعد أوجاع الناس، يصعب على المرء معرفة الأسباب التي أشاعت روح الإيثار، وولّدت حقلًا غير مرئيٍّ من التضامن والتكافل لتخفيف المصاب. وأبسط الأسباب، إذا وضعنا جانبًا الدوافع السياسيّة والدينيّة، قد يكون نابعًا من اتّحاد هموم البشر ضدّ الموت والقتل اليوميّ وإيمانهم المشترك بحقّهم في الحياة، فثمّة شعورٌ شائعٌ بأنّ الجميع صاروا في “الهوا سوى” كما يقول المثل الدارج، وأنّ من لا يزال سالمًا وآمنًا اليوم، قد لا تبقى أحواله كذلك غدًا.

تكتظُّ سورية اليوم بمشاهدَ مؤلمةٍ وغزيرةٍ عن شدّة ما يكابده أهل الجمر، وتسمع قصصًا وحكاياتٍ، كأنّك في مسرح اللامعقول، وتلحظ حين تقترب من الوجوه، دهشةً غريبةً وعيونًا حائرةً، كأنّها تبحث في عيونك عن جوابٍ للمأساة التي تعيش، أو كأنّها تريد أن تتأكّد من صدق مشاعرها بأنّ هناك من يشاركها حقًّا، آلامها وهواجسها، ومن يشاركها السؤال عن دوافع هذا العنف المفرط وأين “الحقُّ” في إطلاق هذا الفتك والتنكيل المريعين لقاء “الحقِّ الطبيعيِّ” في بناء مجتمعٍ حيٍّ يضمن للإنسان كرامته وحريّته. وتستشفّ من نظراتها الحائرة أمنيتها بألّا ترى في أمارات وجوهها المتعبة حالة خوف، لا تريدك أن ترى في عيونها بعض العجز، وربّما الخجل من الإحساس بضيق الحال، وألّا تلمس في أياديها المرتعشة وهي تصافحك، ثقل المعاناة ووطأة التوجّس والقلق ممّا فقدته ومن شروط حياة تزداد سوءًا، ومن تأخّر لحظة الخلاص أمام عنفٍ منفلت؛ كي لا يشي ذلك، ومن دون قصدٍ منها، بأنّ ثمّة تغيّرًا طرأ على عزيمتها وإيمانها بحياةٍ حرّةٍ وكريمة.

والحال هذه، لا نعرف إلى أيّ حدٍّ موجعٍ ومدمّرٍ يمكن أن تصل بنا الأمور قبل أن تطوى صفحة العنف والقهر والاستبداد، وحتى تقتنع أطراف الصراع، بأنْ لا جدوى من استمرار الفتك والتنكيل، ولا نعرف إلى متى يبقى الآخرون، عربٌ وعجمٌ، يتفرّجون على هذا العنف وهو ينهش لحمنا قطعةً قطعةً، وإلى النار المستعرة تأكل الأخضر واليابس، وتحصد البشر زُرَافَاتٍ ووحدانًا. والأنكى من ذلك حين يدمن بعضهم ما يجري، وتغدو المشاهد اليوميّة للقتل والقصف والاحتراب والاعتقال والإذلال أشبه بمشاهدَ روتينيّةٍ يتابعونها، وهم يحتسون قهوة الصباح، ويتهيَّؤون للالتحاق بأعمالهم، ربّما لأنّهم يدركون بأنّ ثمة رمالًا كثيرةً في الطريق يمكنهم دفن رؤوسهم فيها.