مقال

طارق عزيزة: الائتلاف تحالفٌ سياسيٌّ هش متعدّد الولاءات والأجندات

نص حوار مجلة صدى الشام مع طارق عزيزة حول إعلان أعضاء من الائتلاف عن استقالتهم، وموجة الجدل التي أثيرت نتيجته. أجرى الحوار الصحفي مصطفى محمد

 نص الحوار الكامل:

– استقالات وصفت بالمفاجئة شهدها الائتلاف مؤخراً، في أي سياق تضعون ما جرى، وهل من المحتمل أن نشهد استقالات أخرى في المدى المنظور؟.

بالنسبة لي، وربما يشاركني كثيرون هذا الرأي، فإن الاستقالات “مفاجئة” فقط من زاوية أنه في هذا الجسم السياسي الميّت سريرياً.

منذ زمن طويل ثمة من يخرجون علينا اليوم ويريدون الإيحاء بأنهم خلايا نابضة بالحيوية ومختلفة جوهرياً عن هذا الجسم الميّت، ها هم يسعون إلى النأي بأنفسهم عنه، أي عن فشله أيضاً والذي ساهموا فيه بلا أدنى شك، بحكم أنهم تولوا مسؤوليات ومناصب قيادية في الائتلاف ومؤسساته لفترات طويلة، وكأنه يكفي أن يعلن المرء استقالته لتسقط عنه المسؤوليّة.

من المؤسف القول إن ما جرى لا يخرج عن سيرة الائتلاف المعهودة منذ تأسيسه، وحتى في فترات استقراره النسبي وحضوره البارز نوعاً ما خلال الأشهر الأولى من ولادته، لم تغب خلافاته وتشرذماته الدورية عن المشهد السياسي والتنظيمي للمعارضة ولا هي توقفت في مراحل تهالكه، ويبدو أنها ستظل مستمرة حتى النزع الأخير وإعلان الوفاة رسمياً.

على ذلك، أستغرب كلام السيد جورج صبرا في نص استقالته إذ ربطها بما سماه “التناقضات الجارية بين مكونات وأعضاء الائتلاف”، مع العلم أنه في حوار منشور أجريته معه شخصياً قبل حوالي سنتين (تحديداً في أيلول/ سبتمبر 2016)، تحدث الرجل عن عدم تماسك مكونات الائتلاف تجاه الأهداف السياسية المحددة، وقال حرفياً: “لقد غلبت الفئوية والحزبية وغلبت مسألة السلطة داخل الائتلاف، وقضية الانتخابات كل ستة أشهر، فكان الموضوع الأساسي للائتلاف هو انشغاله بالانتخابات كل ستة أشهر لإخراج قيادة جديدة له أكثر مما عُني بتمتين خطه السياسي وبمأسسة وهيكلة مؤسساته، أو دوره داخل المجتمع السوري”.

وعليه من حقنا سؤال الأستاذ جورج لماذا إذن تأخرت استقالتك من الائتلاف حتى الآن؟.

بوصفه تحالفاً سياسياً هشاً متعدد الولاءات والأجندات، فإن هذه الخلافات والتناقضات هي من السمات الملازمة للائتلاف منذ تشكيله، وعندما يبلغ الاستعصاء مبلغاً يصعب معه تعايش مكوناته أو شخصياته أو بعضها على الأقل، تتفجر الأزمات على هذا النحو.

هذا هو السياق الرئيس للحدث، وهو – وإن لم يكن الوحيد- لكنه الأهم الذي يمكن أن توضع فيه الاستقالات الأخيرة وما سبقها وما سيتلوها.

الاستقالات جاءت بشكل مفاجئ وفي وقت واحد، وأصدر المستقيلون بيانات متقاربة حول أسباب الاستقالة

– هناك توقعات بحل الائتلاف والحكومة المؤقتة وتسري إشاعات حول ذلك، ما هو تعليقك، وماذا عن موقف الهيئة العليا للمفاوضات حيث يرى بعض المتابعين أنّ لدى الهيئة التي انبثقت عن مؤتمر الرياض1، نيّة للإطاحة بالائتلاف، وفي هذه الحال هل سيبقى مصير عملية المفاوضات بيد الهيئة العليا، أم سيؤدي ذلك إلى فراغ سياسي يمكن استغلاله من قبل الدول لفرض حل يفضي إلى بقاء الأسد؟

منذ أن جرى الإعلان عن تشكيل “الهيئة العليا للمفاوضات”، بدأ بشكل عملي سحب البساط سياسياً من تحت الائتلاف ومكوناته، لا سيما في ما يخص المفاوضات أو “العملية السياسية”، وذلك برغبة من الجهات التي أنشأت الهيئة ودعمتها.

استمرار الائتلاف والحكومة المؤقتة طيلة هذه السنوات دون أي دور أو فاعلية حقيقية تذكر هو مما يؤكد هذه الفرضية.

بدأ سحب البساط سياسيًا من تحت الائتلاف منذ تشكيل هيئة المفاوضات في مؤتمر الرّياض واحد.

ولا يُغيّر من ذلك أن يكون أعضاء الهيئة العليا أو أعضاء الوفود التفاوضية هم من الائتلاف ومكوناته في معظمهم، لأن للهيئة شخصيّتها الاعتبارية ونظامها الخاص وآليّات عملها، فضلاً عن علاقاتها واتصالاتها المباشرة بالرعاة والداعمين، وهذا يعني أنّ وجودها من عدمه لا يرتبط بالائتلاف ولا بالحكومة المؤقتة، وأنّ بقاءها في عملها مستمر في المدى المنظور على الأقل، بصرف النظر عن مصيرهما.

أما في موضوع ما وصفتموه بـ”الفراغ السياسي” الذي قد ينجم عن حلّهما، فالسؤال الذي يطرح نفسه، هل ثمة من ثقل سياسي أو ملء فراغ استطاعت تشكيلات المعارضة السياسية الرئيسة المتعددة أن تكوّنه أو أن تقوم به؟

وإنها على تعدد مؤسساتها وتجاربها، بدءاً من تجربة “المجلس الوطني السوري”، ثم “ائتلاف قوى الثورة والمعارضة”، ثم “الحكومة المؤقتة” التابعة له، وصولاً إلى “الهيئة العليا للمفاوضات”، لم تكن لا فرادى ولا مجتمعة على قدر المسؤوليات والتحديات الجسام التي تنطّعت للتصدي لها.

والكلام عن دور القوى الإقليمية والدولية في إفشال المعارضة لا يكفي لتفسير بؤس أحوالها، وبالتالي لن يعفيها من تحمل قسطها من المسؤولية، والذي يجب القول إنه القسط الأوفر على اعتبار أن القضية قضيتها كما يفترض، ولأن تناقضات الدول ومصالحها كان من شأنها أن تكون نقطة قوة تستثمرها المعارضة لصالح الثورة، لو أننا امتلكنا معارضة على قدر من الاستقلالية والنزاهة والحس بالمسؤولية الوطنية، لا أن تصبح نقطة ضعف أو مقتلاً، نتيجة هزال وبؤس الشخصيات والمكونات التي ارتهنت لهذه الجهة الإقليمية أو تلك، فعملت بدلالة مصالح تلك الجهات لا مصلحة الثورة أو هيئات المعارضة نفسها.

هذه الأجواء المخزية السائدة طيلة سنوات في أوساط مؤسسات المعارضة (إذا صح أنها مؤسسات بالفعل)، هي التي سهّلت على الغرب، وعلى داعمي النظام بطبيعة الحال، سهلت عليهم اجترار كذبة “غياب البديل” أو حتى “الخوف من البديل”، ثم النكتة السمجة بأن “الأسد سيء ولكن ليس هناك بديل ناضج!”، وما إلى ذلك.

لقد كانت الثورة في أمس الحاجة إلى مستوى عالٍ من توحيد الصف والتمثيل والموقف السياسي، لكن في غياب إمكانية ذلك لأسباب لسنا في صددها، ولأنه لم يكن ممكناً سوى بناء جسم سياسي يقوم على توافقات الحد الأدنى، فإن النتيجة كانت تعدد الهياكل والناطقين والممثلين المنبثقين عن ذلك الجسم، فضلاً عن زيادة المصاريف والفساد بطبيعة الحال، وذلك كله على حساب دماء الشعب السوري وثورته المنكوبة.

-على ذكر التيّارات المتصارعة داخل الائتلاف، هل ترون أن استقالة الأعضاء الثلاثة مؤخراً، والاستقالات التي سبقتها تمهد لتشكيل جسد جديد بديل عن الائتلاف؟.

الاستقالات بالمجمل أكّدت أن المشكلة تكمن في الائتلاف نفسه، على نحو ما رأينا في حديث السيد صبرا مثلاً، ومنطوقها يشي برغبة أصحابها مواصلة العمل السّياسي و”الثّوري” من خارج الائتلاف، وفق ما ورد في استقالة كل من السيدة سهير أتاسي والسيد خالد خوجة، الذي أشار بدوره إلى توافقه مع زميليه.

فهذا الموقف الموحد بين المستقيلين الثلاثة وخروجهم بشكل جماعي، وهم من الوجوه القيادية البارزة في الائتلاف وتأكيد مواصلة العمل من خارجه، يدفع إلى الاعتقاد بأن ما جرى هو إجراء منسق فيما بينهم بحدود ما، وبالتالي لن يكون مستبعداً أن تتبعه خطوة إضافية مشتركة.

غير أن المعطيات المتوفرة حالياً ليست كافية للتكهّن بما ستكون عليه تلك الخطوة أو ما هي حظوظ نجاحها.

في حالة مماثلة قبل نحو سنة من الآن، استقال عدد من أعضاء الائتلاف البارزين بشكل جماعي أيضاً، وأصدروا عددا من البيانات المتلاحقة وبدا أنهم في صدد تجميع أنفسهم في كيان جديد لكن مساعيهم لم تنجح.

وهنا من المهم جداً في هذا السياق التوقف عند مسألة بالغة الأهمية، لا يمكن لأحد أن ينكر على أي شخص حقه في العمل السياسي بكل تأكيد، بل إن السّعي إلى المشاركة واستعادة الحقوق السياسيّة المسلوبة كانت من أهم أسباب الثّورة ضد نظام الطغمة الأسديّة، غير أن هذا لا يجب أن يتيح لمن كان مسؤولاً سياسياً في كيان ما انتهى إلى الفشل أن ينتقل ببساطة لتولي مسؤوليات جديدة في موقع سياسي آخر، قبل أن يقدم لمن يفترض أنهم جمهوره الذين يعمل من أجلهم كشف حساب عن المرحلة السابقة وتقويم أدائه خلالها، أين أصاب وأين أخطأ وكيف ولماذا، وفي ضوء ذلك تتبين أهليته لتولي المسؤوليات مستقبلاً من عدمها، فهذا جزء من ثقافة سياسية جديدة لا يبدو أنها نضجَتْ لدينا بعد.

-هل لتركيا دور فيما يجري، وما مدى انعكاس الخلافات الإقليمية والخليجية- الخليجية على عمل الائتلاف والمعارضة بشكل عام؟.

لم يقصّر الائتلاف يوماً في مديح تركيا ومباركة كل ما تقوم به حكومتها، ولم يخرج موقفه الرسمي بشكل عام في أي وقت عن هذا التوجه.

وهو، مثلاً، عبّر عن دعمه مشاركة عدد من فصائل المعارضة المسلحة في القتال إلى جانب الجيش التّركي، سواء في عملية “غصن الزّيتون” الأخيرة أو قبلها خلال عملية “درع الفرات”، رغم أنّ العمليتين لم تكونا محط إجماع السوريين أو حتى الفصائل المقاتلة، فكان لها انعكاسات سلبية حتى على مستوى اقتتال الفصائل فيما بينها.

مع العلم أن موقف الائتلاف أو “الحكومة المؤقتة” ما كان ليُغيّر من الأمر شيئاً، وهما الفاقدان لأي تأثير فعلي سياسياً أو ميدانياً، مما يعكس موقفه تجاه تركيا بوضوح.

على ذلك، وبحكم تركيبة الائتلاف نفسه وولاءات وحسابات كتله وأعضائه لن يكون من المستغرب أن ترخي الأزمة الخليجية – الخليجية، وكذلك الخلافات التركية مع بعض الأطراف الخليجية بظلالها على أحوال الائتلاف، لتساهم في تعميق الشروخ بين مكوناته وإضعاف بنيته المهلهلة أصلاً.

ورغم هذا لا يبدو أن تركيا معنية مباشرة بالائتلاف ومشاكله ومصيره، سيما وأن لها الآن ترتيباتها الخاصة مع الروس والإيرانيين من خلال مسار آستانة، والذي يراد لمخرجاته ذات الطبيعة العسكرية والميدانية أن تعطي نتائج سياسية تؤخذ بالاعتبار عند الشروع في مناقشة التسوية السياسية في أي مفاوضات جدية قادمة.

– وسط غياب واضح لداعمي المعارضة السّورية، وحالة من التخلي عنها، كيف تنظرون إلى شكل الحل السّياسي؟ أم أنه لا حل سياسي يلوح في الأفق، وروسيا ومن خلفها النّظام ماضية في الحل العسكري؟

عطفاً على إجابة السؤال السابق، لا بد من القول بأن “داعمي المعارضة”، أو بالأحرى من كانوا كذلك، ليسوا غائبين تماماً عن المشهد وإنما بات حضورهم سلبياً ضعيفاً وقليل الفاعلية، هذا إذا لم نقر بأنه دور يميل إلى مقاربات مختلفة عما كان عليه الوضع في السابق.

ولا يجب أن ننسى أن “الداعمين” الرئيسين أنفسهم منشغلون جداً عن الملف السّوري، والذي بالأصل لم يكن دافعهم للاستثمار فيه دعم الثورة السّورية وتطلعات الشّعب السّوري بقدر ما كان السّعي لتحقيق غايات مرتبطة بمصالحهم واصطفافهم ضمن خريطة التنافس الإقليمي والدّولي، وبالتالي ستكون اهتماماتهم منصبّة على هذا أو ذاك من الملفات وفق ما تقتضيه أولويّات تلك المصالح ومعطيات ذلك التّنافس.

ليس لدي بعد تصور محدد لما سيكون عليه شكل الحل السّياسي، ولا أظن أحداً يملك شيئاً كهذا حتى اللحظة، فالسيناريوهات المتخيّلة أو المقترحة والتي يجري تسريبها أو تسويقها في الإعلام هي بقدر ما قد تحمل من عناصر واقعيّة ونقاط قوة بعض الشّيء، إلا أنها في الوقت عينه لا تخلو من ثغرات ونقاط ضعف.

ليست هذه مشكلتها فحسب وإنما كونها تقوم بالأساس على معطيات متحركة، مما يجعلها أقرب إلى المران الذهني ووضع فرضيّات منها إلى خطط عمليّة قابلة للتطبيق.

أما عن “الحل العسكري” الذي يريده الرّوس والنظام، فأرى أنه من السابق لأوانه النظر إلى ما حققته وتحققه روسيا وقوات النظام وإيران وميليشياتها على الأرض كمعطيات ثابتة أو نهائية، لأن هذا يعني إقراراً أمريكياً بها وقبولاً للأمر الواقع الذي يسعى الروس والإيرانيون لفرضه، وهذا ما لم يتحقق حتى الآن، ولا يبدو أن من السهل على الروس والإيرانيين تحقيقه، أي إلزام الولايات المتحدة وبقية الأطراف به.

ولعل من المفيد الإشارة إلى الكلام المتداول في الآونة الأخيرة عن أفكار أمريكية بشأن نشر قوات عربية، فهذا الأمر من شأنه، حال تنفيذه، أن يعيد خلط الأوراق من جديد على أرض الميدان، وتالياً على طاولة المفاوضات والحل السياسي المفترض.

في كل الأحوال، فإن ميزان القوى الحالي لا يعد السوريين بخير، وعلينا ألا نتفاءل، وأمامنا طريق طويل وصراع شاق قبل الوصول إلى سوريا خالية من الأسد وحلفائه، ناهيك عن التخلص من أثار حربهم الإبادية على الشعب السوري وتداعياتها الكارثية.