مشاركاتمقال

علي الشهابي والمطالبة بالمشاركة السياسيّة

مشاركة مدير مركز دراسات الجمهوريَّة الديمقراطيَّة في العدد الخاص عن علي شهابي الذي اصدرته مجلة حنطة

منذ بدايةِ عمله السياسيِّ، عاكس علي الشهابي خياراً من خيارات الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة المتجسّدة بمنظمة التحرير الفلسطينيّة، فبينما كانت الأخيرة تصرُّ على انعزال اللاجئين الفلسطينيّين سياسيّاً عن المجتمعات التي استضافتهم، كان هو ممّن قالوا منذ سبعينيات القرن المنصرم إنَّ وجودهم في سوريا يجعلهم معنيّين بأحوالها كما السوريّين، وليتساءل في المآل بعد “اتفاقية أوسلو” (1993)([1]) ما إذا كانوا قد صاروا سوريّين من أصلٍ فلسطينيٍّ، وهكذا عرّف نفسه. ولهذا كان رافضاً لـ “الخصوصيّة الفلسطينيّة” ولـمبدأ “عدم التدخّل بالشؤون الداخليّة للدول العربيّة”([2])، مطالباً بالمشاركة السياسيّة من موقع السوريِّ([3]).

ولهذا الطرح مشتركاتٌ مع ما قاله قوميّون عربٌ، ويساريّون (أبرزهم ممّن عاصروه، سلامة كيلة، والراحل فارس مراد)، وسوريّون قوميّون اجتماعيّون، وإسلاميّون (كلٌّ منهم بما يتناسب مع رؤيته وأسبابه) قبل أن يعمّم التيار الوطنيّ الفلسطينيّ نفسه على المؤسسات الفلسطينيّة، ويحصل على اعتراف ودعم النظام العربيِّ الرسميِّ، ويجعل مقولاتِه الإيديولوجيّةَ مسيطرةً على الفضاء السياسيِّ الفلسطينيِّ؛ تحديداً بعد “معركة الكرامة” (1968)([4]) حين بدا أنه ينجح فيما عجزت عنه الدولة العربيّة المهزومة في حرب (1967). إلا أن الشهابي افترق عنهم بنتائجه المتأخرة حين وصل إلى اعتبار أنّ الأمرَ لا يرتبط بما هو مفيدٌ للقضيّة الفلسطينيّة، وليس استمراراً لمشتركاتٍ قبليّةٍ بين الفلسطينيّين والسوريّين، كما أنه ليس فقط نتيجة الوجود في المكان، إنما لأن الفلسطينيَّ مع طول هذا الوجود ومجرياته صار سوريّاً بحكم الأمر الواقع دون حاجةٍ لإيديولوجية، تحديداً تلك التي تتّكئ على الماضي لتبرير هذه النتيجة، ودون أن يعتبر ذلك نهايةً لـ”حقِّ العودة”([5])؛ ليس فقط لأنه لا يعتقد بتعارض الحقوق مع بعضها، وإنما أيضاً لأنه ممتلئٌ بالقناعة بأن الناس أنفسهم هم الوحيدون أصحاب الحقِّ بتقرير ماذا سيفعلون بها.

وإذا كانت هذه الأطروحات قد رافقت الشهابي منذ بداية عمله السياسيِّ في أواسط السبعينيات من القرن الماضي، متطوّرةً بتطوّر الظروف، إلا أنها لم تعرف تجسّداً شعبياً لها إلا مع انطلاق الثورة السوريّة في آذار (2011). وعلى الرغم من أنه لا يمكننا، في عجالتنا، تقصّي صلةٍ مباشرةٍ بين طرحه لهذه الأفكار، ومشاركة شبابٍ فلسطينيّين سوريّين سلميّين في المظاهرات([6])، إلا أن ذكر أيٍّ منهما يستحضرُ عند من يعرفهما الآخر. فإن ذُكرت مشاركة فلسطينيّين سوريّين سلميّين في الثورة السوريّة، وذُكر إصرار من فعل على الشقِّ السوريِّ من هويته، يحضر الشهابي كأبرز من دافع عن هذا الاتجاه في الوسط السياسيّ/الثقافيّ؛ وإن كان لم يكتب عنه بشكلٍ مباشرٍ، بل ضمّنه في أطروحاته السياسيّة السوريّة التي وصلت إلى طرحه إنشاء تيار “سوريا للجميع”([7]) في (2006).

ثم إننا نجد مثقفين من الجيل الوسيط بينهما (وعلى وجه الخصوص في مخيم اليرموك الذي يمتلك مواصفات العاصمة في وسط اللاجئين الفلسطينيين) تعرّف على أطروحات علي الشهابي بصيغتها الأولى في نشأته، وعرف تطوّر أطروحاته بهذا الصدد، وعرف السؤال عن مدى صحتها؛ في الوقت الذي لم يعرف خلافاً على مكانة الرجل كصاحب وجهة نظرٍ سياسيّةٍ يمتلك جرأةً استثنائيّةً في طرحها في أقسى المراحل الأمنيّة التي مرّت على سوريا والوسط الفلسطينيّ فيها([8]). وهو ما يشرّع السؤال عن إن كان تبنّي بعض من هذا الجيل هذه الرؤية –إلى هذا الحدِّ أو ذاك- قد ساهم، ولو قليلاً، في بقائها إلى حين أصبحت مقبولةً من قِبل قطاعٍ من الشباب؛ وهو إن صح سيمكّننا من تلمّس دورٍ لعلي الشهابي، في النتيجة التي شهدنا. مع ملاحظة أن المعادلة نفسها تنطبق على قلّةٍ من المثقفين الفلسطينيّين الذين قالوا بضرورة المشاركة السياسيّة للفلسطينيّين السوريّين في سوريا، واعتقلوا لسنواتٍ في سجون النظام السوريّ، ذكرنا منهم أعلاه سلامة كيلة وفارس مراد.

وإن كنّا لا نمتلك في مقالنا هذا الفسحة اللازمة للبحث عن إجابةٍ عن السؤال سابق الذكر، إلا أننا سنحاول مقاربة المشتركات بين علي الشهابي والثوار المدنيّين الفلسطينيّين السوريّين في الثورة السوريّة.

وأول المشتركات: أن كليهما ديمقراطيٌّ، يتمحور اهتمامه حول المشاركة السياسيّة. وهذه في حالتهم جميعاً تعني المطالبة – أقلّه ضمنياً- بالاعتراف من قبل السوريّين بسوريّتهم أولاً.

وقد بدا طرح المشاركة السياسيّة للفلسطينيّين السوريّين في سوريا في السنة الأولى للثورة مناسباً في جوٍّ ثوريٍّ مبشّر، حيث اندفع قطاعٌ واسعٌ من السوريّين للتعرّف إلى بعضهم، وبدا أن وطنيّةً سوريّةً جديدةً وديمقراطيّة تتشكّل([9]). بينما تراجع التفاؤل مع نجاح النظام السوريّ بدفع الوضع نحو الحرب الأهليّة، وأدّت سياسته المنهجيّة، وصعود الجهاديّة وسلوكها، إلى تفتيت السوريّين، فانكسرت الاحتمالات المبشّرة جميعها، وبتنا أمام انكساراتٍ لأحلامٍ كثيرةٍ منها هذا الحلم.

ومنه نشتقُّ ثاني المشتركات، المتضمَّن في المشترك الأول والحامل له: وهو البحث عن “تطبيع الوجود” في المكان. أو بصيغةٍ أخرى انصباب الاهتمام على تسمية الأمور بأسمائها، وتحصيل الحقوق المرتبطة بها. فإذا كان ما أبقي عليه من منظمة التحرير وظيفته الوحيدة التوقيع على الحلِّ النهائي، والحلّ السياسيّ الذي قامت عليه “سلطة الحكم الذاتيّ المحدود” في مناطقَ من الضفة الغربيّة وقطاع غزة قائم على التخلّص من قضية اللاجئين، فإن إبقاءَ اللاجئين رهينةً حتى الوصول للاتفاق النهائيّ ظلمٌ كبيرٌ لهم، وسلوكٌ سياسيٌّ لا أخلاقيٌّ بحقّهم. بالنسبة للشهابي لم يكن هذا الموقف محض اعتراضٍ على “خيار الدولتين”، الذي وصفه بأنه يعني “إما العمل على قيام دولتين بالشكل الذي يتوافق مع الرغبة الصهيونيّة، هذا إذا أدّى لدولتين، أو إلى استمرار الصراع العنيف”([10])، بل كان موقفاً أصيلاً بناه في مسعاه للانسجام بين الديمقراطيّة والحقوق وبين مخرجاته السياسيّة بخصوص أيِّ شأنٍ من الشؤون. إلا أنه على الرغم من ذلك يمكننا تلمّس تشابهٍ بين دعوته هذه في سوريا ودعوة عزمي بشارة في الأراضي الفلسطينيّة المحتلة عام (1948) للمطالبة بالمواطنة الكاملة في إسرائيل، فكلتاهما بجانبٍ من جوانبهما ردّة فعلٍ على “اتفاقية أوسلو”؛ مع التأكيد على أنها سببٌ لا يختصر الأسباب الأخرى. في هذا الوقت وجدنا رغبةً جماعيّةً لقطاعٍ من “المجتمع الفلسطينيّ الشاب في سوريا” بالاندماج في المجتمع السوري([11])، دون القطع مع الهوية الأخرى الفلسطينيّة لأسبابٍ؛ منها نموُّ شخصيّةٍ فرديّةٍ شابّةٍ في هذا المجتمع صارت تبحث عن نفسها خارج إطارٍ سياسيٍّ رسميٍّ فلسطينيٍّ بات مخادعاً، تحديداً بما خصَّ مصيرهم، ولا يتيح لهم المشاركة بتحديده.

وثالث المشتركات: هو الإصرار على السلمية، حيث أطلق الشبابُ الثائر عنوان “المخيمات ملاذٌ آمن”([12]) بينما طرح علي الشهابي موضوعة “الاستفتاء العامّ” الديمقراطية أمام كلِّ من تحدّث عن العسكرة، وعاد وعمّمها على الجميع قائلاً إن “مصير الناس لا تقرّره القلة، إنما الناس أنفسهم”([13])، وتنبأ بالحرب الأهليّة، ومساراتها، ودعا إلى “تعزيز النهج السلميّ” و”التفكير بتصوّراتٍ لما يمكن عمله، إن اندلعت شرارة الحرب الأهليّة…ما ينبغي علينا القيام به للجم تحوّلها لطائفيّة.”([14]). وعلى هذا النهج سار حين ذهب إبّان دخول طرفٍ من المعارضة المسلّحة إلى مخيم اليرموك (16-12-2012) إلى منطقة التماس (مجمع “الخالصة” التابع للجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين- القيادة العامّة تحديداً) ليدعو الطرفين إلى عدم الاحتكام إلى السلاح، وإلى خروج المحاصرين من المجمع. وكما كلّ من يشبهه في الثورة السوريّة دفع علي الشهابي ثمن مدنيّته وسلميّته واندفاعه للمطالبة بعدم الاحتكام إلى السلاح، فتمَّ اعتقاله عند أول مخيم اليرموك في (17/12/2012).

ختاماً

لم نحاولْ في سياق ما أوردناه الدفاعَ عن خيارات علي الشهابي السياسيّة، وإنما بسطنا بعض ما يختصّ منها بسورية، والمشتركات بينها وبين مطالب شباب الثورة الفلسطينيّين السوريّين. وحاولنا التنبيه، ما استطعنا، إلى آليّةٍ أنتجها في مسعاه للانسجام ما بين المقولات الأخلاقيّة التي آمن بها، والديمقراطيّة والمشاركة السياسيّة اللتين طالب بهما، وبين حقوق الفلسطينيّين السوريّين الذي هو منهم. أما الحكم على مدى صحة أو خطأ أطروحاته فهذا موضوعٌ نتركه للحوار العامّ، وهو ما نعتقد أنه سيعود لدائرة الاهتمام ما إن تُعاد الفرصة إلى الناس لطرح مطالبها بعد أن تخفَّ وطأة القمع المهول لسلطات الطغيان القديمة منها والجديدة.

—————————

[1] – اتفاقية أوسلو (إعلان المبادئ الفلسطينيّ – الإسرائيليّ حول ترتيبات الحكم الذاتيّ الانتقالية)، وقّعها الجانبان في واشنطن بعد إتمام الاتفاق عليها في العاصمة النرويجيّة أوسلو  في (13 أيلول – سبتمبر 1993). ورحلت الاتفاقية قضية اللاجئين الفلسطينيين إلى المرحلة النهائية، ليجدوا أنفسهم خارج ترتيبات المؤسسات التي انبثقت ينتظرون مصيراً لا قرار لهم بشأنه. نصّ الاتفاقية: http://goo.gl/rHUcrT

[2] – المادة (27)  من الميثاق الوطنيّ الفلسطينيّ يرد فيها “تتعاون منظمة التحرير الفلسطينية مع جميع الدول العربية كل حسب إمكانياتها، وتلتزم بالحياد فيما بينها في ضوء مستلزمات معركة التحرير وعلى أساس ذلك، ولا تتدخل في الشؤون الداخلية لأية دولة عربية”. ويفترض بنا أن نفهم هذا المبدأ على أنه إلزامي لكل الفلسطينيين الذين تعتبرهم المنظمة “جميعاً أعضاء طبيعيّين” فيها، حسب المادة (4) من الميثاق الوطني. يمكن الاطلاع على الميثاق: http://www.dair.plo.ps/beta/V1/index.php?placeId=103

[3] – سنعتمد في تسجيل الكثير من آراء علي الشهابي على ما سمعناه منه، وشهادات من أصدقائه. وحينما يكون هناك مرجع مكتوب من قبله سنثبته في الهامش ونشير له.

[4] – معركة، جرت في (21 مارس 1968)، انتصر فيها الفدائيون الفلسطينيون في الأردن، بمشاركة من قوات من الجيش الأردني، على محاولة اجتياح إسرائيلية. للاستزادة، موقع “المعرفة”، http://goo.gl/9eZ0NH

[5] – في خطابٍ مفترضٍ وجهه إلى المجتمع الإسرائيليّ، اقترح علي الشهابي عليه السلامَ بينه وبين الفلسطينيين “على أساس قيام دولة واحدة من البحر للنهر، يحق فيها للاجئين الفلسطينيين العودة إلى أرضهم”: علي الشهابي، “نقاش مع مشروع رؤية فلسطينية جديدة”، الحوار المتمدن، http://m.ahewar.org/s.asp?aid=142889&r=0&cid=0&u=&i=585&q=

[6] – للكاتب مقالة قارب من خلالها مواقف الشباب الفلسطينيين المشاركين في الثورة السورية ورؤيتهم بعنوان “اليرموك: صراع الأجيال وتدمير مجتمع العصاة” نشرت في “مجلة الدراسات الفلسطينية” في ملف عن مخيم اليرموك بعنوان “اليرموك: كارثة أكبر من مخيم” شارك بإعداده، بالإمكان الاطلاع عليها على موقع المجلة على شكل ملف pdf: http://www.palestine-studies.org/ar/mdf/abstract/191251 ، أو على موقع مركز دراسات الجمهورية: http://goo.gl/QSkoDY

[7] – صاغ علي الشهابي مسودة للحوار لم يتمّ نشرها بعنوان “من أجل أن تكون سوريا للجميع”. وتضمّنت المسودة الدعوة إلى بناء سوريا على أسس الديمقراطية العلمانية، التي تحمي الحريات العامّة والخاصّة للمواطنين، وكذلك التنوع والتعدد القوميّ والدينيّ، ورفض التعصب القوميّ والديني، ورفض الطائفيّة السياسيّة.  والمسودة توضح صراحة بأنه سيتمّ الإعلان عن تيارٍ سياسيٍّ باسم “سوريا للجميع” بعد الحصول على الموافقات المطلوبة وفق قانون الأحزاب الذي ينتظره الجميع. فتمّ اعتقاله في (10/8/2006)، وصدرت العريضة التالية عن مثقفين سوريين: http://www.metransparent.com/old/texts/ali_said_shehabi_arrested.htm

[8] – اعتقل علي الشهابي أربع مرّات: كان الاعتقال الأول في (3/11/1974) وبقي في السجن نحو سبعة أشهر، الاعتقال الثاني من عام (1982) إلى  عام (1991)، الاعتقال الثالث من (10/8/ 2006) إلى (9/1/2007)، وكان الاعتقال الرابع في (17/12/ 2012) ولم يفرج عنه حتى الآن.

[9] – روى للكاتب شابٌ ثوريٌّ فلسطينيٌّ سوريٌّ بفخرٍ أنه في إحدى المظاهرات في “حي التضامن”، الملاصق لمخيم اليرموك من جهة شارع فلسطين، صرخ أحد الناشطين “السوري يجلس” فلم يفعل الكثير من المتظاهرين، وعند سؤاله إياهم عن السبب أخبروه أنهم فلسطينيون سوريون فما كان منه إلا الردّ “كلنا سوريون” فجلسوا بحماسة. وهو مما يبين افتراق أوساط من الثورة عن الدارج من السياسيات حول الموضوع، وحماسة الشباب للاعتراف بهم كسوريين.

[10] – علي الشهابي، “نقاش مع مشروع رؤية فلسطينية جديدة”، مصدر سبق ذكره.

[11] – “اليرموك: صراع الأجيال وتدمير مجتمع العصاة”، مصدر سبق ذكره.

[12] – المصدر السابق.

[13] – من لقاء مع علي الشهابي كان الكاتب حاضراً فيه.

[14] – علي الشهابي، الحرب الأهليّة القادمة في سوريا، الخط الأمامي، ص5، https://goo.gl/ljZld2

يوسف فخر الدين

كاتب وباحث فلسطيني سوري مقيم في بوردو، فرنسا. من مؤسسي مركز دراسات الجمهورية الديمقراطية، مدير المركز.