أبحاث

عنف البنية المحتضّرة

ينتمي نظامُ الحكم في سورية إلى بنيةٍ قديمةٍ من الذهنيّة والممارسة؛ بنيةٍ حافظت على ذاتها عبر الانشغال بهمٍّ واحدٍ وحيدٍ ألا وهو، كيف السبيل إلى البقاء رغماً عن التغيّرات الواقعيّة أو الممكنة التي يتعرّض لها المجتمعُ السوريُّ وروح العالم معاً؟.. كان الجواب العمليُّ عن هذا السؤال هو الشغلُ الشاغل للحكم منذ السادس عشر من تشرين 1970 حين استولى حافظ الأسد ـــ وزير الدفاع آنذاك ـــ على السلطة. وجاء الجواب أيضاً بسيطاً عن سؤالٍ زائفٍ. هو سؤالٌ زائفٌ لأنّ لا علاقة له بمنطق الحياة ولا بمصادفاتها، ولهذا جاء الجواب: لابدَّ من تكسير رأس التاريخ عبر القوّة. لم تكن القوةُ تعني للنظام سوى احتكار القوةِ وإشهارها دائماً في وجه أيّة حالةٍ من حالات التمرّدِ على النظام.

ولقد تأسّست القوةُ المحتكرَة من قبل النظام على جملةِ أعمدةٍ وأهمّها:

1 ـــ الاستيلاء على القوةِ العسكريّة من قبل النظام والتحكم بها وجعلها أداته الأساسيّة في الحفاظ على السلطة.

2. الاستيلاء على أجهزةِ الأمن وتوسيعها ليشمل تدخّلها في شؤون الناس كلّ أنماط عيشهم.

3. التحكّم بأجهزةِ الإعلام جميعها في محاولةٍ لتشكيل الوعي المطابق مع البنية المتخلّفةِ.

4. إفراغ المجتمع من أيّة قوةٍ ممكنةٍ تتيحها له أنماط المجتمع المدنيِّ أو الأهليِّ أو السياسيِّ.

5 ـــ تحطيم البنية الأخلاقيّةِ القائمة على فهم الكرامة الإنسانيّة للحيلولة دون ظهور أيِّ نوعٍ من أنواع التمرّدِ أو التأفف عليه ومنعه.

6. الاعتماد على عصبيّةٍ طائفيّةٍ أساسيّةٍ مع جماعاتٍ أخرى تعلن الولاء لهذه العصبيّة، ومنح هذه العصبيّة القوّة وفضلات القوّة واحتكارها، حيث أدّت إلى خلق بنيةٍ ذهنيّةٍ ذات وعيٍ سلطويٍّ ومنفرّدٍ بالسلطة من جهة، وخائفة على مصيرها إن هي فقدت السلطة.

لقد أدّى احتكار القوّة المؤسَّسة على الأعمدة السابقة إلى زوالِ الدولة وانتصار السلطة المحتكرَة، فنمت ظاهرةُ احتكار السلطة لشكل دولةٍ دون دولةٍ. وعلى هذا تأسّست إستراتيجيّةُ السلطة العامّة في مواجهة أيِّ قوّةٍ ناشئةٍ أو أيِّ حراكٍ أو أيِّ تمرّدٍ أو أيِّ انتفاضةٍ أو أيِّ نقدٍ، أو أيِّ نوعٍ من أنواع الممارسة الفكريّة أو العمليّة.

ولإستراتيجيّة كهذه شقّان: شقٌّ منصبٌّ على الحيلولة دون ظهور أيِّ إمكانيّة تمرّدٍ، وشقٌّ متعلّقٌ بمواجهة التمرّد الواقعيِّ إن حصل. انطوى الشقُّ الأول في إستراتيجيّة المواجهة السلطويّة على تحطيم المجتمع المدنيِّ عبر تحويله إلى أذرعٍ في إستراتيجيّة القمع. فلقد التهمت السلطةُ النقاباتِ جميعها التي من شأنها أن تكونَ المحرّك الأساسيَّ لأيّة انتفاضةٍ، وجعلتها مؤسّسات سلطةٍ لا مؤسسات مجتمعٍ، كنقابة المعلمين و نقابة الصحفيّين ونقابة المحامين ونقابة الأطباء والفلّاحين والعمال وحتّى الكتّاب إلخ..

لذا حرمت النقاباتُ من ممارسة حتى مهامها المطلبية . فمنذ 1970 لم تجرِ أيّة مطالبةٍ بحقوق أجورٍ أو عملٍ أو حريّةٍ إطلاقاً. وهذا الأمر ساهم مساهمةً كبيرةً في خلق الركود التاريخيِّ واستمراره، حيث طعن قلب المجتمع ـــ المجتمع المدنيِّ ـــ والذي يعبّر عنه القلب الفاعل ألا وهو الفئاتُ الوسطى.

وإذا أضفنا إلى هذا الالتهام للمجتمع المدنيِّ تحطيمَ المجتمع السياسيِّ في صورته الحزبيّة، ومنع قيام الحياة السياسيّة، باستثناء الحزب الحاكم بوصفه قائداً للدولة والمجتمع نظرياً ولم يكنْ كذلك في تاريخيه قط، أدركنا حجمَ الكارثة في سلب الفئات الوسطى و الأكثريّة السكانيّة من شخصيّتها وفاعليّتها وإبداعها.

أمّا التحطيم الأكبر لقلبِ المجتمع، أي الفئات الوسطى، بوصفه إستراتيجيّةَ تحطيم الممكن، أي الحيلولة دون ظهورِ الخطر والوقاية من “شرِّ هذه الفئات”، فقد تمَّ عبر تحطيم نمطِ عيشها القائم على تلبية حاجاتها بكلِّ ارتياحٍ. فعبر الإفقار المتعمَّد لهذه الفئات سعى النظامُ إلى إشغالها بالعمل لتلبية حاجاتها البيولوجيّة فقط. أي نقلها من التحرّر البيولوجيِّ الذي هو صفةٌ من صفات نمط عيشها إلى الانشغال بالبيولوجيِّ. ومن أهمِّ عناصر إستراتيجيّة مواجهة المجتمع، في شقّها الأولِ كإستراتيجية وقاية، مراقبة حياة الناس وإفسادها بجمهورٍ كبيرٍ من المخبرين، وجعل أنشطة الحياة مرتبطةً بالموافقات الأمنيّة، بدءاً من الحصول على الموافقة الأمنيّة للقيام بحفل زفافٍ في قاعةٍ من القاعات، وانتهاءً بالموافقات الأمنيّة على نشاط القطّاع الخاصِّ. وكلُّ ما سبق ذكره تمَّ في أهمِّ عنصرٍ من عناصر إستراتيجيّة الوقاية؛ وأقصد إعلان حالة الطوارئ التي استمرّت عقوداً من الزمن، وظلّت ممارساتها قائمةً بعد إلغائها الشكليِّ.

لقد ألغت حالةُ الطوارئ فكرة الحقِّ من حياة السوريّين، من حقِّ الحياة وحقِّ التملّك إلى حقِّ التعبير وحقِّ العمل وحقّ السفر. وألغت السلطة القضائيّة التي من شأنها أن تحافظ على الحقِّ وترعاه. وألغت قانون العقوبات وحوّلته إلى أداة قهرٍ. حيث قضى عشراتُ الآلاف في السجون ومازالوا يقضون دون أيّه تهمٍ يجرّمها القانون. وأرست حالات إلغاء الحقِّ، حالات الاعتداء على الحقِّ، كالاعتداء على الأرض وأملاك الدولة وحقوق الآخرين، بل صار الحصولُ على الحقِّ وسيلةً للابتزاز الماليِّ. لقد جعلت إستراتيجيّة مواجهة السلطة هذه لإمكانيات الحراك الشعبيِّ جهازَ السلطة مرهقاً إلى أبعد الحدودِ، وبالمقابل أرهق المجتمع إرهاقاً قلَّ مثيله في التاريخ. أما إستراتيجيّة النظامِ في المواجهة المباشرة لأيِّ حراكٍ أو تمرّدٍ أو انتفاضةٍ فلقد تأسّست على استخدام القوّة العسكريّةِ والأمنيّةِ استخداماً لا حدودَ له في القضاء قضاءً كاملاً على الخصم.

وقبل أن أنتقلَ إلى الحديث عن إستراتيجيّة النظام في مواجهة الثورة الراهنة، لابدَّ من الوقوفِ عند التجربة التي واجه فيها النظام تمرّد ما سُمّيَ خطأً تمرّد الإخوان المسلمين فقط. لأنّ تمرّدَ سبعينيّات القرن الماضي لم يكن وقفاً على الإخوان المسلمين، بل اشتركت به قوىً عديدةٌ كالحزب الشيوعيِّ السوريِّ (رياض الترك) ورابطة العمل الشيوعيِّ وحزب البعث العربيِّ الاشتراكيِّ التابع للقيادة القوميّة في العراق “وحزب البعث ـــ 23 شباط” وحزب العمال إلخ. لكنّ جزءاً من الإخوان هم الذين مارسوا العمل الإرهابيَّ العنفيَّ المسلّح بشكلٍ طائفيٍّ ـــ أي ضدَّ نخبٍ من الطائفة العلويّة ـــ وبطريقةٍ لم تشهد لها سورية مثيلاً في تاريخها. انطلق النظامُ في مواجهة الإخوان المسلمين من إستراتيجيّة الإبادة، دون أيِّ تفكيرٍ بالأسباب التي أدّت إلى عنف الإخوان ومعارضة الأحزاب اليساريّة والبعثيين للبعث الحاكم، ودون أيّة محاولةٍ ـــ ولو محاولة ـــ لإصلاح النظامِ وتقديم تنازلاتٍ على الأرض لتأسيس العيش المشترك على حدٍّ أدنى من الحياة المعشريّة الديمقراطيّة.

إبادةٌ لجماعة الإخوان المسلمين، سجنٌ طويل الأمد للفئات الأخرى، سجنٌ لمجرّد الشبهة. هذه الإستراتيجيّةُ التدميريّة لم يكن لها لزومٌ، حيث كانت السلطة تتصرّف بمنطق العنف الإخوانيّ نفسه مع الإخوان، لا بوصفها سلطة دولةٍ بل بوصفها سلطةً فقط. كانت الشبهة كافيةً لإدخال الكائن البشريِّ إلى أقسى أقبية السجون ولسنين طويلةٍ. وكان سجن تدمر الأنموذجَ الفريدَ من نوعه في سجون العالم في القتل والتعذيب والإهانة. وفي الوقت نفسه تضخّمت أجهزةُ الأمن إلى حدٍّ أشاعت فيه الرعب والخوف في المجتمع. ما إن تيسّر للنظام، عبر إستراتيجيّة العنف الإباديِّ، النجاحُ على العنف المسلّح للإخوان والرفض السلميِّ للمعارضة حتّى اعتقد أنّه قد استنَّ طريقةً ناجعةً في الانتصار على الخصوم. ولقد أدّى هذا النجاحُ إلى إطلاق يد سلطة الأمن بكلِّ شعبه وفروعه للتحكّم بالحياة اليوميّةِ للبشر الذين أصابهم الهلعُ من هول بطش النظامِ.

حوّلَ النجاحُ هذا النخبة العسكريّة إلى نخبةٍ فاجرةٍ–فاسدةٍ حاكمةٍ بأمرها. في هذه الفترة بالذات، فترة ما بعد النجاحِ في القضاء على معارضي النظام، فقدت السلطةُ كلَّ حياءٍ في ممارسة بطشها وجشعها وفسادها. ولأنّ شبحَ الإخوان ـــ الطليعة المقاتلة ـــ ظلَّ حاضراً أمام السلطة ظلّت إستراتيجيّة الإبادة حاضرةً لكلِّ احتمال تمرّدٍ. السلطة المنتصرة اطمأنّت لانتصارها واطمأنّت لإستراتيجيّتها في ظلِّ ركودٍ مجتمعيٍّ وهلعٍ اجتماعيٍّ وخنوعٍ شبه كليٍّ.

وكان الامتحانُ الآخر لهذه الإستراتيجيّة الإباديّة في قمع ربيع دمشق، الذي كان حركةَ نخبةٍ ثقافيّةٍ ـــ سياسيّةٍ نزيهةٍ سلميّةٍ وطنيّةٍ بالمعنى الأخلاقيِّ، ليس فيها أيُّ حضورٍ لنزعةٍ طائفيّة رغم عصبيّة نخبة النظام الطائفيّة. كان الظهورُ المباشر لربيع دمشق بعد خطاب القسم للرئيس الشابِّ الذي ورث سلطة أبيه، عبر آليّة احتكار القوّة التي تحدّثت عنها، وهو في سن الرابعة والثلاثين خارقاً بذلك الدستورَ الذي فرضه الأب. كان خطابُ القسم نوعاً من الرشوة للمجتمع السوريِّ للتخفيف من مهزلة استلام الابن للسلطة من جهةٍ، ومحاولةً للانزياح عن صورة الأب من جهةٍ أخرى. وظنّت النخبةُ السوريّة المتمرّدة أنّها قادرةٌ على النهوض بحركةٍ إصلاحيّةٍ تحمل النظام على القبول بها، ولاسيّما أنّ عدداً من رجالات النظام أوحى بإمكانيّةٍ كهذه. ولقد عاشت سورية آنذاك مرحلة المنتديات التي ـــ وبسرعةٍ هائلة ـــ عمّت جميع محافظات البلد، وبدا أنّ مرحلةً جديدةً قادمةً مع شابٍّ لا ينتمي إلى عصر أبيه ولا إلى ذهنيّته. وما هي إلّا فترةٌ قصيرةٌ حتّى أدرك خطورةَ الحراك وخاف من أن يعمّ البلاد.

وأدرك الرئيسُ ـــ الابن ـــ أنّ والده قد أورثه بنيةً غير قابلةٍ للإصلاح أبداً، وأنّ أيَّ إصلاحٍ في هذه البنية يعني زعزعتها والإتيان عليها. فجرّب الإستراتيجيّة الإباديّة مرّةً أخرى، وأودع خيرة نخب سورية في السجون، وأغلق المنتديات جميعها دون أيّ اكتراثٍ بالمستقبل. بل زاد تغوّل أجهزته الأمنيّة وتغوّل القرابة التي راحت تحتكر الثروة وإعادة إنتاج الثروة، مطمئنّاً إلى إستراتيجيّةٍ ناجعةٍ ومجرَّبةٍ. ولأنّ التجربةَ ـــ كما اعتقدَ ـــ أكدت نجاحها، فهي قادرةٌ على النجاح في أيِّ وقتٍ وضدّ أيِّ قوىً. هذا الاطمئنان لإستراتيجيّته جعله يستخفُّ بما يختزنه المجتمعُ من حقدٍ و كرهٍ وقوّةٍ روحيّةٍ وشبابٍ واعدٍ ومعرفةٍ متجاوزةٍ الجهل السلطويَّ وآمال بعالمٍ جديد وحركة عالم سريعة. اطمأنّ لمجتمعٍ خالٍ من السياسة ومن النشاط المدنيِّ ومن الأحزاب السريّة، كما اطمأنّ إلى العلاقةِ الحسنة مع دولِ العالم الفاعلة. لم يكترث بما جرى في تونسَ ومصر واليمن اعتقاداً منه أنّ الخنوعَ قد صار سمةً أصيلةً من سمات المجتمع السوريِّ.

لا أريد الآن أن أشرحَ أسباب الثورة السوريّة، لكن لم يخطر على بال النظامِ أو بال أحدٍ أن تبدأ شرارةُ التمرّد من المنطقة التجاريّة السوريّة التقليديّة (الحريقة). وتعزّزها درعا، التي توالى عليها أمراءُ النهب والقمع لمدّة أربعين عاماً من محافظين و رؤساء فروع أمنٍ. ولأول مرّةٍ وجد النظام نفسه في خطرٍ، بعد أن امتدّت المظاهرات لتشملَ كلَّ ربوع الوطن السوريِّ، ولكنه خطرٌ قابلٌ للإزاحة والانتصار عليه كما ظنَّ. كيف لا وعنده إستراتيجيّةٌ جاهزةٌ. ولكنّ هذه الإستراتيجية تحتاج إلى إغناءٍ هذه المرّة، لا إلى تعديلٍ؛ لأنّ الحراك الثوريَّ قد عمَّ البلاد كلّها، باستثناء مناطق عصبيّة النظام. قامت إستراتيجيةُ النظام القديمة الجديدة في مواجهة الثورة المدنيّة السلميّة العامّة على ما يلي:

أولاً: لابدَّ من إيقاف المظاهرات التي أصبحت خطيرةً وتزداد قوّةً وشمولاً، وأظهرت قدراً من الشجاعة غيرَ متوقّعٍ، وذلك عبر القتل العمد و لعددٍ من المتظاهرين كافٍ لإدخال الرعب والخوف، ولاسيّما قتل من يُشتبه أنّه من قادة الحراك الشعبيِّ، و التصفية الجسديّة لكلِّ النشطاء الفاعلين. وإدخال الجيش فوراً إلى ساحة فعل القمع حتّى لو تطلّب الأمرُ إزهاق أرواح الآلاف.

ثانياً: اعتقال كلِّ من له علاقةٌ بالثورة السلميّة هذه، بدءاً من نشطاء التواصل الاجتماعيِّ، وانتهاءً بكتّاب الشعارات على الحيطان، مروراً بالمشاركين في المظاهرات، واستخدام أشدِّ أنواع القمع والتعذيب بحقّهم.

ثالثاً: إن استخدامَ أسلوبٍ كهذا، من شأنه أن يوقفَ ـــ كما خطّط النظام ـــ الحراكَ الشعبيَّ الذي قمعه بهذه الوحشيّة، وقد يسبّبُ حرجاً أمام العالم كدولٍ ومنظماتٍ، ويحوّل جزءاً صغيراً من المتظاهرين إلى حركةٍ مسلّحةٍ يسهل الانتصار عليها بجيشٍ عرمرم. رابعاً: يجب أن يترافق هذا مع تحقيق بعض مطالب الحراكِ الشعبيِّ في الظاهر مع بقاء الممارسة هي هي. أي إصلاحٌ شكليٌّ للبنية مع بقاء البنية، لأنّه كما قلنا لا يمكن إصلاح البنية. وهكذا أُلغي قانونُ الطوارئ، مع بقاء ممارسة القمع والقتل بأشدّ ممّا كان أثناء حالة الطورائ. ألغيت المادة الثامنة من الدستور، وبقيت ممارسةُ حزب البعث هي هي. صار هناك قانونُ أحزابٍ يضمنه الدستورُ، وظلّت الحريّة للأحزاب الموالية للسلطة. كلُّ هذا ترافق مع إعلان حربٍ شاملةٍ ضدَّ الحراك الشعبيِّ، والدخول في عالم اللامعقول في ممارسة القتل والتعذيب والقمع والسجن.

خامساً: توفير المناخ لظهور حركاتٍ أصوليّةٍ عنيفةٍ، أو إدخالها ليظهر الصراع أمام الغرب أنّه صراعٌ بين السلطة والإرهاب والقاعدة، فينال حظّاً من تأييد دول الغرب.

سادساً: إدخال البلاد في صراعٍ طائفيٍّ بإشراك إيران وحزب الله وأحزابٍ شيعيّةٍ عراقيّة في عمليّة الصراع، فيضمن خلط الأوراق ونفي صفة الثورة الشعبيّة عن الحراك السوريّ، ويطيل أمدَ الصراع ظنّاً أن قوته كافيةٌ لوضع نهايةٍ يرضاها، وتعيد إنتاج البنية كما هي دون تغيير. لم يحسب النظامُ حساب تحوّل جزءٍ من الحركة الشعبيّة نفسها إلى حركةٍ مسلّحةٍ قط. ولم يحسب حسابَ أن تتحوّلَ الحركةُ الشعبيّة المسلّحة إلى فرقٍ وألويةٍ وكتائبَ تحمل أسماء الموروث السنيِّ والأبطال الشعبيّين، وتتمتّع بروحٍ معنويّةٍ قتاليّةٍ عاليةٍ جداً. كما لم يحسب حساب وجود دولٍ أعادت تقدير الموقف، وراحت تدعم الحراكَ الشعبيَّ والحراك الشعبيَّ المسلّح بالعتاد والمال والتأييد المعنوي.

ورغم هذا، ورغم أنّ الإستراتيجيّةَ القديمة قد أثبتت سنون الثورة الثلاث عمقها وفشلها، فما زال النظامُ يعتمد حتّى الآن إستراتيجيّةَ الإبادة هذه في حسم معركةٍ تعيد إنتاجَ الماضي القريب. إنّه الآن في حال المستحيل بكلِّ ما ينطوي عليه من أوهامٍ في مواجهة الممكن بكلِّ ما ينطوي عليه من واقعيّة. ما لا يتحقّق الآن، أو فيما بعد، هو المستحيل، لقد انهارت البنية. وإنّ الإستراتيجيّة القديمة التي نجحت في بنيةٍ على قيد الحياة، لن تنجحَ في بنيةٍ تنهار وتولد في الوقت نفسه من أحشاء الثورة بنية جديدة مختلفة.

وبكلمةٍ أخرى إنّ الإستراتيجيّة القديمة المجرَّبة والتي استخدمت مع الثورة، هي إستراتيجيّةٌ تتطابق مع عناصر البنية القديمة المتماسكة، ولا تنفع مع عناصر بنيةٍ انهارت أو في طريقها إلى الانهيار. فالجيش ـــ وهو العنصر الأهمُّ في البنية القديمة ـــ هو الآن جيشان، ومن هذا العنصر القديم ظهر قادةُ ألوية وكتائب الجيش الحرِّ. وأجهزة الأمن في ظلِّ حرب المدافع والصواريخ لا قيمة لها، ولم تعد فاعلةً حتّى في إخافة الحشرات، والأكثريّة لم تعد بحاجةٍ إلى التقيّة خوفاً من الظهور، والحزب الذي كان الغطاءَ الأيديولوجيَّ للإستراتيجيّة الإباديّة لم يعد له قيمة، بل إنّ كثيراً من أعضائه هم اليوم جزءٌ من الحراك الثوري. والوظيفة القديمة للنظام التي أرضت الغرب وأمريكا، لم يعد هذا النظام قادراً على القيام بها. ومن ثمّ إنّ إستراتيجيّةً مكوّنةً من بقايا جيشٍ مع جزءٍ من مليشياتٍ شيعيّةٍ عراقيّةٍ ولبنانيّةٍ وخطابٍ ميّتٍ، ناهيك عن اقتصادٍ منهارٍ، لن تفعل في النهاية سوى إطالة عمر بنيةٍ هي في لحظة الاحتضار.


للاطلاع على الورقة في الكتاب:
[gview file=”http://drsc-sy.org//wp-content/uploads/2013/11/dictatoridm-strategy.pdf”]

الدكتور أحمد برقاوي

مفكر وكاتب فلسطيني، شغل منصب رئيس قسم الفلسفة في جامعة دمشق