*مقال

فلسطينيو سورية والهوية المركبة

مشاركة مدير المركز في ملف العدد الأخير من مجلة الدراسات الفلسطينية “فلسطين في مرايا الثقافة العربية”

في مسعانا لمقاربة وضع الفلسطينيين السوريين اخترنا أن نلاحق تعقيدات الواقع مبتعدين عن القبول بالتبسيطية التي تُقوّله ما لا يقوله، وتلوي عنقه للاستخدام السياسي. فالبحث الموضوعي هو إحدى أدوات المعرفة التي تستخدمها الشعوب في مواجهتها التحديات المعاصرة، وعليه أن يكون صادقاً كي يفيد هذه الشعوب برؤية واضحة لا تضليل فيها، تعينها في مسارها، وهذا أمر يحتاج إليه الشعب الفلسطيني الذي لا يزال يتعرض لتحديات مركبة ومتعددة تستهدف حقوقه ومستقبله.

والتعقيد هو سمة الصراع الحاد الذي يعيشه الإقليم الذي منه فلسطين، والذي تعيش فيه قطاعات كبيرة من اللاجئين الفلسطينيين، ومنهم الفلسطينيون السوريون الذين مزقتهم أهوال الحرب في سورية، مثلما مزقت السوريين، ودمرت مخيماتهم. فقد دُمرت مدن وقرى سورية كثيرة، بعد أن عاش الناس هناك فترة من الأمل بإنهاء الاستبداد، والشروع في حياة ديمقراطية تمكّنهم من التعامل مع حاجاتهم بعدل ومساواة وإدارة جماعية.
بدأت الحكاية بإحراق بائع متجول على عربة في تونس يدعى محمد البوعزيزي نفسه احتجاجاً على مصادرة السلطات البلدية في مدينة سيدي بوزيد عربة كان يبيع عليها الخضار والفواكه لكسب رزقه، وتنديداً برفض سلطات المحافظة قبول شكوى أراد تقديمها ضد شرطية صفعته أمام الملأ في 17 كانون الأول / ديسمبر 2010. وكان ذلك بمثابة شرارة انطلاق موجة الديمقراطية بدءاً من تونس، وصولاً إلى المنطقة عامة التي كانت تتجمع عوامل الانفجار فيها، من أزمات اقتصادية واجتماعية ودوام القهر السياسي.
وفيما عدا النظام في تونس، فإن الأنظمة العربية قررت أن أي شيء آخر هو أسهل من إجراء تسوية مع شعوبها، الأمر الذي أثار اضطرابات كبيرة لم يهدأ أوارها بعد.
وإذا توخينا الدقة، فإن أربعة عوامل أساسية لا تزال تفعل فعلها الحاد في واقع المنطقة، متضافرة مع عوامل ثانوية أقل أهمية، وهذه الأزمات محلية عميقة من دون حلول، ومن دون برامج حلول لدى الأطراف السياسية المحلية المتصارعة، وهي أزمات بعضها مترابط بأزمة الرأسمالية العالمية، وبعضها الآخر ناتج منها؛ نظم استبدادية قائمة على الاستئثار والقهر، خسرت شرعيتها؛ معارضات تشبه الأنظمة التي تعارضها، تستطيع تعطيل قدرة الشعوب على إنتاج بدائل سياسية، إلاّ إنها عاجزة عن بناء نظم أكثر صلاحاً من التي ثار الناس عليها، ويتقدمها الإسلام السياسي بإرثه الفكري المتخلف وشراهته للسلطة (باستثناء حزب النهضة التونسي حتى الآن)؛ احتداد الصراع بين الدول الكبرى على مستوى العالم، وتلك التي على مستوى الإقليم، للدفاع عن مصالحها والتوسع فيها. أي أن السقف الممكن للحراك السياسي الاجتماعي في المنطقة هو فتح أبواب الأنظمة الموجودة على الديمقراطية، الأمر الذي إن عجز عنه النظام المثار عليه ومعارضته الرسمية، فإنه سيتسبب بانهيار البلد، أو سيرتد لاستبداد قد يؤجل الانهيار إلى بعض الوقت، لكنه سيكون انهياراً شاملاً حين يحدث مجدداً.
وفعلاً، تفاعلت هذه العوامل بعد اشتعال الانتفاضات الشعبية في المنطقة عامة، مرتكزة على تصلب أغلب النظم الحاكمة التي عرفت انتفاضات شعبية، وعجزها عن إنتاج آليات استيعاب إرضائية عامة تسمح باستمرارها (باستثناء تونس حتى الآن، وبانتظار ما سيحدث في الجزائر والسودان)، بما في ذلك إجراء تسويات جدية مع الثائرين عليها تسمح بإطلاق ديمقراطية ومشاركة سياسية، الأمر الذي حوّل المسار عن الآفاق الرحبة التي شاع التفاؤل فيها بداية إلى اضطرابات حادة. ولهذا يمكن وصف هذه الانتفاضات بأنها انتفاضات أزمة حدثت حين فقدت نظم سياسية / اجتماعية استبدادية (في زمن العولمة وجَيَشان تنافس دولي وإقليمي حاد)، كثيراً من عوامل استمرارها من دون أن يكون هناك بدائل واضحة منها، فاتحة الأفق إمّا على تسوية تُحسّن القائم، وإمّا على انهيار شامل.
كانت الحالة السياسية الفلسطينية، في تلك المرحلة، تعيش ضياعاً مركباً وصل إلى حد أن الفلسطينيين عامة بدأوا يعتبرون الحديث عن شعب فلسطيني موحد، ضرباً من الحلم الذي يتمسكون به من دون أن يتصرفوا بناء عليه في مواجهة التحديات الناشئة. فعلى الرغم من إصرارهم على فلسطين، فإن الوطنية، وهي سياسية بالضرورة، تتطلب مؤسسات لتكون واقعاً سياسياً.
في هذا التوقيت أيضاً، أي تزامناً مع الثورات العربية في سنة 2011، كان حل الدولتين قد أوصل الشعب الفلسطيني إلى حال من التمزق، وصار تعبير قطاعات الشعب المنفصلة جغرافياً عن مصالح ومشاغل متباينة، أمراً واقعاً لم تعد القوى السياسية التي بنت الوطنية القديمة (التي تعني كل فلسطين، وتمثلها منظمة التحرير كمؤسسة)، ثم استبدلتها بإنتاج وطنية فلسطينية مغايرة بناء على حل الدولتين، وهي وطنية تنحصر في الضفة الغربية وقطاع غزة (وتمثلها السلطة الوطنية الفلسطينية المحدودة بحسب اتفاق أوسلو)، تستطيع الاستمرار في حجبه.
هذا الواقع الجديد تمظهر لدى الفلسطينيين في سورية على شكل رغبة في التعامل مع هذا البلد كوطن ثانٍ، من دون أن يتخلوا عن فلسطينيتهم التي لا تمر عبر المؤسسات، وإنما تتصل بالوجدان والذاكرة والخيال الجمعيين، ومن دون أن يقطعوا الأمل بشكل كامل من أن تعود منظمة التحرير إلى ذاتها فتعيد وصل علاقتها بهم. ولقد عبّر هؤلاء عن هذه الرغبة بحسب ظروفهم ووعيهم، بشكل فردي وجماعي، ومن تعبيراتهم في سياق الصراع في سورية، اصطدام اندماجين فلسطينيين: ذاك الخاص بالقيادات السياسية التي اندمجت بالنظام، والآخر الخاص بالعامة، وتحديداً الشباب منهم، المتفاوت في رفض النظام أو تأييد المعارضة.[1]
ثمة دلائل كثيرة عليه نستخرجها من صوت الفلسطينيين السوريين في الطور الأول من الصراع السوري حين كان هناك ثورة ديمقراطية سلمية، وأبرزها انتفاضة مخيم اليرموك في 6 حزيران/ يونيو 2011، والتي تظاهر فيها عشرات الآلاف معلنين أن الفلسطيني والسوري واحد، ومجاهرين برفضهم لاستخدام الدم الفلسطيني من طرف النظام السوري للتغطية على إراقته الدم السوري.
وقد رافق هذا التطور شيوع الأمل على المستوى الفلسطيني العام بأن يكون هذا الربيع فاتحة علاقات أفضل للمحيط مع القضية الفلسطينية، الأمر الذي كان يُظهر اشتداد الضيق من العلاقات السيئة بين النظم العربية والشعب الفلسطيني، ومنها مشاركة بعضها في حصاره.
إلاّ إن توصيف تفصيل رأي عامة الفلسطينيين السوريين بما حدث بعدها في سورية، وتفصيل ما باتوا يريدونه جرّاء تداعي الأحداث، لم يعد بالسهولة نفسها منذ نهاية سنة 2012 حين انتقل الصراع في سورية وعليها، إلى طور حرب شاملة أدخل النظام والمعارضة المخيمات الفلسطينية في أتونها. فقد دمر النظام السوري مخيمات اليرموك بشكل كامل، وحندرات وسبينة بشكل شبه كامل، ومخيم خان الشيح بشكل جزئي، وكذلك مخيم درعا، ونتج من ذلك كله تعقيدات شديدة بسبب تشظي المجتمع مثل حالة مخيم اليرموك الذي لم يعد فيه من نحو 200,000 فلسطيني إلاّ بضعة آلاف، بينما توزّع البقية بين لجوء جديد خارج سورية أو نزوح فيها، وحالة مخيمات درعا وحندرات وسبينة، وحدث الأمر ذاته بنسب أقل، في مخيمات أُخرى. واعتقلت السلطات السورية 1748 فلسطينياً لا يزال مصيرهم مجهولاً، وقتلت تحت التعذيب 585 فلسطينياً، في حين بلغ عدد الفلسطينيين السوريين الذين قضوا جرّاء الحرب في سورية 3940 ضحية. وقد قدّرت وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى (الأونروا) عدد اللاجئين من الفلسطينيين السوريين إلى دول العالم جرّاء الحرب في سورية بـ 120,000 لاجىء (بينما نميل إلى تقدير عددهم بأكثر من 146,000 لاجىء).
بعد هذا كله، ومن أجل معرفة رأي عامة الفلسطينيين السوريين التفصيلي والدقيق، بتنا نحتاج إلى جهد بحثي مركّب، فيه تأريخ وتوثيق وشهادات واستبيانات… وبعد إنجاز هذه الأبحاث يمكننا أن ندّعي أننا بدأنا نفهم تقديراتهم لما حدث معهم، وماذا يريدون بشكل أكثر دقة.
أمّا القوى السياسية الفلسطينية في سورية فيمكن بسهولة أكبر التعرف إلى أطروحاتها وتفسير سلوكها، فهي مستمرة في إنتاج أدبياتها السياسية، كما أن قادتها يقدمون رأيهم عبر المنابر الإعلامية، ويعقدون اللقاءات السياسية معبّرين عن تحالفهم مع أطراف، وعدائهم لأُخرى، ومنهم قادة تحالف قوى المقاومة الفلسطينية المندمجين في النظام السوري من بوابة وظيفتهم الفلسطينية، ومشاركتهم في الحرب السورية، إمّا بحمل السلاح، وإمّا بمجهود أمني أو سياسي أو دعائي. وبيّن الصراع في سورية أن الفصائل الفلسطينية التابعة للنظام السوري اندمجت فيه ولم تعد فلسطينيتها أكثر من وظيفة لها عنده، إلاّ إنها تحت ضغط منظمة التحرير وعامة الفلسطينيين السوريين اضطرت إلى تفعيل خطاب الخصوصية الفلسطينية وإخفاء مشاركتها العسكرية خارج المخيمات الفلسطينية وتوكيل ميليشيا بقيادة وعنوان فلسطينيين (لواء القدس) للدلالة على مشاركة فلسطينية في الأعمال الحربية للنظام السوري.[2]
غير أن المشهد، وعلى الرغم من مأسويته، وتعقيدات معرفة رأي الناس ـ مثلما أسلفنا ـ وتعقيدات حياتهم الجديدة، لا يحجب المؤشرات الواضحة التي تصدر عن الفلسطينيين السوريين فيما يتعلق بتمسكهم بسورية، وبحقوقهم فيها، وبقضيتهم الوطنية الفلسطينية في الوقت نفسه، الأمر الذي يسمح بتوقع استمرار نضج وعيهم بهويتهم المركبة وبنائهم رأيهم استناداً إليها.
أمّا في الداخل السوري، فإن الفلسطينيين السوريين لم يتخلوا عن تراثهم السياسي الذي كسوه بتضحياتهم ليكون متكاملاً بالنضال، وليس فعلاً تضامنياً مع فلسطين المحتلة فحسب، ففي مخيم اليرموك مثلاً، وخلال حصاره الذي امتد من 18 تموز / يوليو 2013 حتى أيار / مايو 2018، لم يكفّوا عن اعتصاماتهم عند كل حدث يُلمّ بفلسطين والفلسطينيين فيها. وقد استمروا في فعل ذلك حتى عندما اضطروا إلى النزوح إلى بلدات جنوبي دمشق الأُخرى المحاصرة معهم، تحت ضغط حصار النظام السوري وقصفه لهم من الخارج، وإرهاب تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) من الداخل، والذي تمدد من مدينة الحجر الأسود الملاصقة للمخيم إلى داخله.
أمّا الذين هجّرهم النظام السوري من الفلسطينيين السوريين، برفقة السوريين من المناطق المحاصرة في أرجاء سورية إلى الشمال السوري، فتمسكوا بتعبيرهم الوطني، على الرغم من تعرضهم لظروف قاهرة في خيم تغرق بالمياه، ومن غياب حاجات الحد الأدنى للحياة. ومن تعبيراتهم في هذا الشأن “وقفة تضامنية عبّروا من خلالها عن رفضهم للتطبيع مع الاحتلال الصهيوني، ودعوا إلى إطلاق سراح الأسرى والمعتقلين”، وشاركهم فيها “أهالي الجولان المحتل المهجرون إلى الشمال السوري في مخيم البل، إضافة إلى مشاركة مهجرين من أهالي الغوطة الشرقية ومحافظة درعا”، وذلك بحسب منشور في صفحة “رابطة المهجرين الفلسطينيين –أعزاز ومحيطها”، في شبكة فيسبوك للتواصل الاجتماعي.
ونظم فلسطينيون سوريون أيضاً اعتصامات في لبنان وفي أرجاء أوروبا، بعضها تضامناً مع مخيم اليرموك وبقية المخيمات التي كانت محاصرة، ومعظمها تضامناً مع قطاع غزة، أو القدس، أو الأسرى، أو سائر موضوعات القضية الفلسطينية.
ختاماً، تستمر شعوب المنطقة في محاولة فتح أفق في الإغلاق القائم، بينما تستمر الدول الكبرى، الإقليمية والعالمية، في الاستثمار في ضعف السلطات الحاكمة وعجزها عن التغيير، للنيل من الاستقلالية النسبية لهذه البلاد، واحتلالها إن استطاعت. غير أن هذه معادلة مفتوحة على الاحتمالات، إذ لا يظهر من سلوك الشعوب أنها تنوي ترك بلادها للاستبداد الداخلي أو للاحتلالات الخارجية، ولا أنها ستستسلم لتعطيل نضج بدائلها السياسية والبرنامجية، والذي تسببت به المعارضات، وفي طليعتها الإسلام السياسي والجهادي.
ومن هذه الشعوب الشعب الفلسطيني الذي عرفت قطاعاته التي تعيش اللجوء في دول المنطقة، نهاية الصورة الثابتة السطحية التي قدمتها القوى السياسية الفلسطينية عن مصالحه وحقوقه، والتي عرفت أيضاً كيف أن حقوقها مركّبة، ومنها حق حيازتها حقوق المواطنة الكاملة حيث تعيش من دون أن تخسر حقها في فلسطين، أو في المشاركة في النضال التحرري الفلسطيني، لأن حقاً ما لا يلغي حقاً آخر. وقد أنتج هذا الوعي إرادة سياسية عبّر الناس عنها ما دامت الصراعات في دول المنطقة في طورها السلمي، بينما تراجع صوتهم حين علا صوت السلاح ومَن يحمله، وسنحتاج إلى وقت كي نعرف كيف سيصيغون تلك الإرادة بأنفسهم في ظروفهم الجديدة، مع اعتقادنا أن تعبير مَن تهجر منهم من سورية عن توقه إلى سورية ورغبته في العودة إليها، في الوقت الذي يستمر في المطالبة بحقه في فلسطين، هو الطابع العام لها.
وفي الواقع، فإننا نعرف أن العملية جارية فعلاً، وأن الشعب الفلسطيني، كغيره من الشعوب، خلّاق وقادر على إعادة التكيف وإنتاج آليات نضاله وبرنامجه المتلائم مع وعيه للتحديات التي يواجهها، وفي استطاعته إنتاج آليات تواصله مع الشعوب الأُخرى للتعاضد والتضامن.

* مدير مركز دراسات الجمهورية الديمقراطية ـ فرنسا.
[1] يوسف فخر الدين، “صراع الأجيال وتدمير مجتمع العصاة”، “مجلة الدراسات الفلسطينية”، العدد 103 (صيف 2015)، ص 36 – 47، في الرابط الإلكتروني التالي:
https://oldwebsite.palestine-studies.org/sites/default/files/mdf-articles/036-047.pdf
[2] يوسف فخر الدين وهمام الخطيب، “التكامل القاتل: ‘تنظيم القيادة العامة’ و’لواء القدس’ “، “المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية” و”مركز دراسات الجمهورية الديمقراطية”، آذار / مارس 2019، في الرابط الإلكتروني التالي: http://tiny.cc/oksl5y

المقالة على موقع المجلة:
https://www.palestine-studies.org/ar/mdf/fulltext/235570

يوسف فخر الدين

كاتب وباحث فلسطيني سوري مقيم في بوردو، فرنسا. من مؤسسي مركز دراسات الجمهورية الديمقراطية، مدير المركز.