تحليل سياسات - تقدير موقف

“مشايخ الكرامة” ومحاولة الخروج من الثنائيات الضدّيّة إلى المتفق عليه

همام الخطيب – يوسف فخر الدين
مدخل
على مدار عقودٍ خمس، قام النظام السوريُّ على إدارة التناقضات السوريّة، من طبقيّةٍ وعشائريّة وطائفيّة وجهويّة وإثنيّة للقبض على سوريا وتأبيد سلطته(1). وهو الأمر الذي ما زال يراهن عليه للقضاء على الثورة، ومنع السوريّين من التوحّد عليها، وأغلبيتهم العظمى لديها ما تثور من أجله.
وكان للمجتمع السوري أن يحاول تعويض ضعف المعارضة التقليديّة، التي تعرضت للاستنزاف عبر عقود القهر، ويتجاوز -عبر المبادرة- التوجّهات الطائفيّة والفئويّة للقوى المهيمنة في الطور الثالث من الصراع الجاري، حيث أصبحت الثورة هي الطرف الأضعف، عبر مبادراتٍ محليّةٍ تحاول التلاقي مع الكلِّ الوطنيِّ عبر الأقنية المتوفرة، أو ما تستطيع صنعه من أقنيةٍ بديلة.
وإذ كان كلٌّ من النظام وأطراف من المعارضة، والقوى الطائفية المنتشرة على ضفتيهما، عملت على سحق المجتمع المبادر في الكثير من المناطق السورية، وأغلقت الأبواب أمامه لحشره في ضديّة أن يقبل بالعودة إلى الاستبداد القديم أو يرضخ للاستبدادات الجديدة(2)، إلا أن مناطقَ جديدةً تعيد الحيوية إلى أهداف الثورة بالحرية والديمقراطية والمشاركة السياسية، قبل أن تعود قوى النظام الاستبدادي، أو قوى التطرّف، لضربها، وقتل قادتها الذين تنتجهم عبر آليات أهلية، بغية إعادتهم إلى المعادلة الضدّية.
مع ملاحظة أن البنى الأهليّة تنتج في ظلّ الحصارات، والطغيان الدموي، والقطع بين مكوّنات الشعب السوري، بنىً تشبه المجتمعات السورية أكثر مما تشبه نخبه المتقوقعة حمائيّاً حول ذاتها، أو نتيجة تكلّسها؛ وهو ما يعني أنها تحوي حمولات المجتمع الأهلي، بفاعليّة العائلة كمحورٍ لها(3)، من طائفيّةٍ اجتماعيّةٍ ومحليّة جهويّة. وهو ما يجد، حسب التجارب التي اطّلعنا عليها في سوريا، قوى شبابيّة معارضة واعية تحاول التأثير بها وشدّها أكثر للمشتركات الوطنية، العملية التي تجد مواجهة من الاستبداد، الذي انتهج القتل والحصار.
وضمن هذه المبادرة الأهليّة تندرج ظاهرة “شيوخ الكرامة”، بما فيها من مميزات وعيوب. وككلِّ المبادرات الأهليّة تواجه ببنية المعارضة المهيمنة خارجياً، وبتفاعل المعارضة المضطرب. فبينما تتفاعل النشاطات الثوريّة معها لتجاوز عيوبها وتفعيل إيجابياتها، تحاول مكوّناتٌ معارضةٌ تقليديّةٌ جرّها للضديّة كصدىً لمحاولات النظام الضاغطة.
ومع اغتيال رمز حركة “شيوخ الكرامة”، الشيخ “وحيد البلعوس”، في الرابع من أيلول 2015 (وعادة ما تكون المبادرات الأهليّة متمحورةً حول رموزها)، يُطرَح سيلٌ من الأسئلة عن الحركة ومستقبلها. تحديداً كون نوايا الأجهزة الأمنيّة التي قامت بعملية الاغتيال معروفةً على نطاقٍ واسعٍ في المحافظة، وأنها جرت ضمن عملية تجميع للقوى المؤيدة، بما فيهم رجال الدين المؤيّدون للنظام. وهي الأسئلة التي نحاول التصدّي لمقاربتها، ورسم صورةٍ للواقع الذي نسأل عنه، كخطوةٍ في سلسلةٍ من تقديرات الموقف للإجابة عنه.
نظرة على السياق العام
على الرغم من صغر حجم محافظة السويداء وقلّة عدد سكانها قياساً بباقي المحافظات السوريّة، حيث لا يتجاوز عدد سكانها 350 ألف نسمة عدا الوافدين إليها، إلا أنها حملت تعقيدات الصراع السوريّ نفسها كما في باقي المحافظات السورية. وككلِّ مناطق التماس الطائفيّ، هناك تعقيداتٌ مضافةٌ ناتجةٌ عن الخصوصيّات الاجتماعيّة والطائفيّة، وما ينتج عن ذلك من حساسيّاتٍ مع محيطها السنيِّ. وبما خصَّ موضوعنا نجد الكثير من الحساسيّات ما بين محافظة درعا والسويداء، حيث تشابكت الحساسيّات الناتجة عن الاحتكاك بين الفلاحين والبدو، مع تلك الناتجة عن كون كلٍّ منهما من طائفةٍ مختلفة، مع حساسيّاتٍ طائفيّةٍ تاريخيّة ومناطقيّة بين عموم السويداء وعموم درعا، وهو ما رعته الأجهزة الأمنيّة طوال عمر النظام السوري الراهن، وكرّسته ليكون عامل استقرارٍ لها.
في كلِّ هذا اتّبع النظام إستراتيجيّةً تهدف إلى رعاية التطاحن الداخليّ في محافظة السويداء، وبين المحافظة ومحيطها، بغية تحييد السويداء عن خطِّ الثورة، ومنع تشكّل خطٍّ وطنيٍّ يجتمع عليه أبناء المحافظة. الإستراتيجية التي صار لها استطالة بعد عسكرة الصراع، ونموِّ قوة عسكريّة في محافظة درعا، حيث صار حريصاً على منع تلاقي المحافظتين خشية من تقوية الجبهة الجنوبية، التي تعدُّ البوابة الأهم لدخول المعارضة المسلّحة إلى دمشق.
ولخدمة أغراضه، مستفيداً من خبرته في إدارة التناقضات الأهليّة، مدّعياً بأنه حامٍ للأقليّات، وبغية الاستفادة من أبناء السويداء كجنودٍ في المحرقة السورية، عمد إلى منهج سعى من خلاله لوضع مجتمع السويداء في خضمِّ ثنائيّاتٍ ضديّة تعمّق الشرخ والصدام ضمنه، وتبعد إمكانيّة الإجماع الوطنيّ على مصير الوطن عموماً، والمحافظة خصوصاً؛ فطرح مجموعةً من الثنائيّات الضديّة، وعزّز بعضها على حساب بعضها الآخر، مع الحفاظ على تجنّب المواجهة المباشرة مع أبناء المحافظة كي لا يتوحدوا ضدَّ عدوٍّ مشتركٍ فيعودون إلى سلوك المجتمع الطبيعي؛ وأهمُّ هذه الثنائيات: معارضة/ موالاة، ثوار/ شبيحة، مشايخ كرامة/ مشايخ سلطة، زعماء مرحلة/ زعامات تقليدية، دروز/ سنة، بدو/ حضر، وإلى ما هنالك من ثنائيّاتٍ متناحرة. كما حاول النظام تفعيل الأزمة فيما بين تلك الثنائيّات كي تتطاحن فيما بينها وتغرق في مستنقع التفتيت والتذرير.
وقد أظهر النظام خبرته في إدارة الأزمة فيما بين تلك الثنائيات وفق إستراتيجيّةٍ منتظمة، ورؤيا تقوم على ضرب الجميع بالجميع، وخلط الأوراق، وإدخال المحافظة في حالة من الضياع حيث لا تجد ضالتها إلا عند النظام الذي هو أكثر القوى انتظاماً وقوةً. مع العلم أنه حرص، ليضمن نجاح إستراتيجيته، على تجنّب استفزاز المجتمع بشكلٍ مباشر؛ فكان على مدى سنوات الثورة الخمس حريصاً على ألا يطلق النار على المظاهرات، وكان حريصاً على عدم دفع المجتمع باتجاه العنف الدفاعي الذي شهدنا كيف يصبح في المناطق الأخرى، بعد إراقة النظام دماء المتظاهرين، عنفاً جمعيّاً موجّهاً باتجاه عدوٍّ مشترك. حيث حرص في محافظة السويداء على عدم تصدّي الأجهزة الأمنيّة الدمويّ للمظاهرات، ووضع الموالين له (الشبيحة) في المواجهة، لتقفَ الأجهزة الأمنية خلفهم، وحصر الدمويّة بالحدود الدنيا، وبالخفاء، حيث تمَّ قتل ناشطين في أقبية القوى الأمنية.
المبادرة الأهلية
عندما ظهر “مشايخ الكرامة” كانت الحركة عبارةً عن تمرّدٍ بسيطٍ، ولاسيّما على خدمة أبناء السويداء في الجيش السوري. وأول عملية ظهروا فيها هي الهجوم على ثكنة سدِّ العيّن، التي كانت تجمّعاً للعسكريّين من أبناء المحافظة قبل فرزهم إلى الوحدات القتاليّة حيث قاموا بإطلاق سبيلهم عنوة. إلا أن هذه الحركة تطوّرت بشكلٍ لافتٍ، وأخذت تفرز قياداتها وتأخذ خطّاً يهدف إلى الخروج من الثنائيّات الضديّة التي حاول النظام حصر مجتمع السويداء بها. واعتبر “مشايخ الكرامة” أن هذه الثنائيات تعطّل المجتمع في السويداء، وتهدّد بانفجاره، وسلخه عن محيطه السوري والعروبي. فبدأت هذه الحركة بطرح المشتركات بين أبناء السويداء، والدفع للخروج من دائرة المتناقضات إلى دائرة المشترك والمتفق عليه. فطرحوا شعار “حماية الأرض، والعرض، والمعتقد”، ما حظي باستحسان معظم الشرائح المجتمعيّة في محافظة السويداء. ولم يبقَ هذا الطرح ضمن إطاره الشعاراتي طويلاً، بل برهن “مشايخ الكرامة” فعليّاً، ومن خلال الأحداث والوقائع، على قدرتهم على تطبيق هذا الشعار ولاسيّما في معركتي “الحقف” في 19 /5 / 2015، و”شقا” في 3/ 7/ 2015، وقبلهما معركة “داما” في 16 آذار 2013؛ حيث استطاعوا ردَّ عدوان القوى المتطرّفة في أكثر من مكان، وأكثر من معركة، وسقط منهم شهداء.
كما أشار “مشايخ الكرامة” أن لا نية لديهم في الانفصال عن سوريا، حيث قال الشيخ الشهيد البلعوس “سوريا أمنا”، وأيضاً قال “نحن وطنيّون عروبيّون”، إشارة إلى عدم نية “مشايخ الكرامة” التعاون مع إسرائيل. وبهذا التوجه ظهر أن “مشايخ الكرامة” يخطون طريقاً واضحاً، فهم ضدَّ الاستبداد، وضدَّ التفتيت المجتمعي، وضدَّ التيارات الإسلاميّة المتطرفة الطاغية على مشهد المعارضة في سوريا، وضد السير منفردين بأي اتجاه.
وفي الفترة الأخيرة قبل استشهاد الشيخ البلعوس، تسارعت التواصلات بين بعض شباب المعارضة وبين حركة “مشايخ الكرامة”، وكانت هذه المحادثات تتجه، حسب شهودنا، تجاه انتقال الحركة من المحليّ إلى الوطنيّ، وتجنّب الطائفي. وهو ما صدر للعموم عبر إحياء “مشايخ الكرامة” مقولة سلطان الأطرش من جديد “الدين لله والوطن للجميع”. وقد قال صراحةً الشيخ البلعوس في موضعٍ آخ ر “نريد دولةً تحكم بالقانون، ولكل السوريين، حيث لا تأخذ تعليماتها من إيران الشيعية ولا من أفكار ابن تيمية المتطرفة”.
ملامح النضج واتجاهاته
حرص “مشايخ الكرامة” على استقطاب الفئة الرمادية في محافظة السويداء، وهي من كان يطلق عليها الناشطون (فئة الله يهدّي البال)، وهي شريحة تعتبر ما يجري في سوريا حرباً عبثية مدمرة ويريدون الخلاص منها بأقل الخسائر، فجاء رفع حركة “مشايخ الكرامة” شعار “لا موالاة ولا معارضة” ليدغدغ طموحات هذه الشريحة الواسعة في السويداء؛ وبالفعل دخل قسمٌ كبيرٌ منها في مضمار المشاركة، إما بالمواقف أو بالمشاركة العملية على أرض الواقع مع “مشايخ الكرامة”، وهو ما عنى بدء تَشكّل قاعدةٍ شعبيّةٍ ل ”مشايخ الكرامة”، وليبدأ الشيخ البلعوس جولاته المكوكية على قرى الجبل، ليبارك البيارق التي تشكلت تحت لوائه وبلغت 35 بيرقاً. وترافق هذا التطوّر مع حالات انشقاق واسعة في الميليشيات التي أنشأها النظام في السويداء، ولاسيّما الدفاع الوطني وكتائب البعث، وانضمامها إلى الشيخ البلعوس.
وقد وقف خلف انزياح المتردّدين باتجاه “مشايخ الكرامة” خذلان النظام لهم في معركة بصرى الشام، حيث رأوا ما رأوه من كذب النظام وإعلامه واستعداده للتخلي عنهم. أضف إلى ذلك سوء الحياة المعيشية في محافظة السويداء، واتباع النظام لسياسات التقشف المجحفة بحق أبناء المحافظة التي تعدُّ من المحافظات السورية الفقيرة أصلاً(4). إلا أنهم بعد هذا الانزياح، وشعورهم بحماية “مشايخ الكرامة”، أظهروا مكبوتهم الحقوقي، فبدؤوا حراكاً شعبياً مطلبياً. وتجلّى هذا الحراك بالمظاهرات، والاعتصامات، التي قامت قبل اغتيال الشيخ البلعوس. وبهذا انتقل الحراك من شكله النخبوي، الذي كان حكراً على المثقفين وقطاعات من المعارضة السياسية في المحافظة، إلى حراكٍ شعبيٍّ مطلبيّ.
وعند هذا التحوّل بدأ مزيدٌ من الموالين ينزعون طوق الولاء للنظام من أعناقهم شيئاً فشيئاً، وأخذ المعارضون يقتربون من حركة “مشايخ الكرامة” أكثر فأكثر. وبدا حينها أن حركة المشايخ بدأت تغير من طبيعتها شيئاً فشيئاً أيضاً، فقد عمدت في الفترة الأخيرة إلى خلق شيءٍ من التنسيق مع القوى العسكرية المعتدلة في درعا عن طريق شخصيات معارضة، كما بدأت، حسب شهود، بالتفكير بالبعد الإقليمي والدولي، وهو ما أفضى لزيارة الشيخ البلعوس إلى الأردن، ولقائه ببعض الشخصيات الدولية والإقليمية هناك؛ فبدا أن الحركة تخرج من محليتها باتجاه العام السوري، والإقليمي والدولي.
وقد سُرِّبت أخبارٌ عن اللقاء، مفادها عدم موافقة الشيخ البلعوس على طرح التقسيم، وتمسكه بسوريا الموحدة، وبالطرح الذي يقول بجعل الجنوب كل الجنوب بوابة لدخول دمشق. مع العلم أنه قد رفض سابقاً الكثير من العروض من قبل النظام، ومنها ما عرضه عليه “علي مملوك”، ورفض التهاون والمفاوضة على مبادئه. وهو ما أدى بالنظام، حسب شهود، قبل اغتياله بعدة أيام إلى دفع رجالاته إلى التكتّل ضده، حيث وُقّعَ صكٌّ بين قوى تضمُّ بعض العشائر السورية وزعمائها المحسوبين على السلطة، كما وقّعَ من محافظة السويداء مشايخ العقل الثلاثة، والأمير “شبلي الأطرش”، وبعض الزعماء التقليديّين، وزعماء العائلات. وأورد الشهود بأن هذا الصك ينصُّ على محاصرة، ومقاومة، السلاح الخارج عن نطاق السلاح الشرعي (أي سلاح السلطة)، وهو ما اعتبره القائل بمنزلة التواطؤ المسبق على عملية الاغتيال، والاستعداد للمشاركة في ضرب حركة “مشايخ الكرامة”.
اغتيال الشيخ البلعوس للتخلص من الحركة المتنامية وتحالفاتها
إن الجهات التي لها مصلحة في التخلّص من الشيخ البلعوس كثيرة، ولاسيّما تلك التي تذهب باتجاه التقسيم، أو تلك التي تستبطن بقاء الأسد وسلطته في السويداء. وبعضها كان يرغب بتصفيته لاعتباراتٍ دينيّة، أو عائلية، أو لاعتبارات الزعامة المجتمعيّة والدينية. إلا أن أيّاً من هذه الجهات لا تُقدِم على هذه الجريمة دون التنسيق مع النظام، وأخذ الأمر المباشر منه. ومن الواضح من تتابع التفجيرات الثلاثة (واحد ضرب موكب الشيخ، وآخران تتابعا في محيط المشفى للتأكد من قتله وقتل من يهبُّ للمكان من المقربين له)، احتراف التخطيط والتنفيذ لهذه العملية. وهناك دلائل إضافية بهذا الخصوص، منها “تنظيف” السلطات الأمنيّة لمسرح الجريمة من الأدلة بعد التفجير الثاني في المشفى، وغياب أيِّ تحقيقاتٍ جنائيّة (ولا حتى أدنى تواجد للشرطة) بعد التفجير. إضافة للاتهام السياسيّ الموجه للنظام، ولاسيّما على خلفية تهديده للشيخ البلعوس. أضف إلى ذلك إخلاء المقرّات الأمنية قبل التفجير بساعات، وقام بوضع أبناء السويداء الذين ينتمون للميليشيات الموالية له في هذه المقرّات إمعاناً منه في إذكاء نار الفتنة والتطاحن الداخلي بين أبناء المجتمع نفسه، استعداداً لردة الفعل الفورية التي كان قد توقعها النظام بدراسته للعملية، وفضلها على العمل المنظم الذي كان سيقوم به البلعوس ورجاله على مبدأ أقل الضررين.
أهداف الاغتيال
في مصطلح “سياسة أقل الضررين” نختصر الكثير من التفسير، فالأجهزة الأمنية التي رأت تنامي حركة “مشايخ الكرامة”، وانتقالها لتصبح منطقة تلاقي الرأي في المحافظة، وقوة حماية للمطالب الشعبية، ووجدت في حركة الشيخ البلعوس كل المؤشرات لتحوّله من زعيمٍ محليٍّ إلى فاعلٍ سياسيٍّ بعلاقات سوريّة وإقليميّة ودوليّة، ولاسيّما بعد ذهابه للأردن واتصاله بالجبهة الجنوبية للتنسيق، وجد أن الضرر الحاصل من قتله أقل من الناتج عن بقائه.
وبهذا يكون النظام وجه ضربةً استباقيّةً لـ”مشايخ الكرامة”، على أمل أن يتخبّطوا ويقعوا في فخِّ ردّات الفعل، فيسهل عليه جرّهم إلى ممراته الإجبارية. كما جهز النظام روايةً ضعيفةً بثّها بعد التفجير، يكشف فيها عمّن اتهمهم بالتورّط بهذه الجريمة، على أمل أن تكون شمّاعةً يعلّق عليها موالوه في المحافظة رفضهم المشاركة في الحراك الشعبي الرافض لهذه الجريمة، وملجأ للمرتدين خوفاً من تبعات الحراك المطلبي. أبعد من ذلك، أراد النظام من خلال هذه الرواية خلط الأوراق من جديد، بعد أن رتبها “مشايخ الكرامة” بشكل بدا لعامة الناس معقولاً.
فالنظام قدّم في روايته المخطِّط والمنفِّذ والمساعِد من أبناء السويداء، وتحديداً جعلهم ممن يعودون بانتماءاتهم إلى المعارضة، لكي يعيد موالاته المحافظة للسياسة الضدية. وذكر “وافد أبو ترابة”، وهو المتهم بتنفيذ العملية، مع مجموعة من أصدقائه، نحو 25 اسماً جلّهم من المعارضة (يعودون لانتماءاتٍ مختلفةٍ، فمنهم من يتبع للمجلس العسكري سابقاً، ومنهم من يتبع إلى المجالس المحلية، وآخرون يتبعون إلى مشاريع كالذي يمثله “شبلي الأطرش” وهو مشروعٌ إقليميٌّ، وغير ذلك من الممثلين في مؤتمرات مثل سنديان وقرطبة…). إذاً شمل “أبو ترابة” في اعترافاته الطيف المعارض كله، وهدف النظام من خلال ذلك العودة إلى ثنائية موالاة/ معارضة، وإظهار المعارضة في السويداء على أنها مجموعةٌ إرهابيةٌ تتآمر على أمن المحافظة.
ومن ناحية أخرى ذكر “أبو ترابة” اسمين اتهمهما بالتنسيق معه للقيام بالتفجير، وهما “رامي الحسين” و”سليم أبو محمود”، وهما ينتميان لقرية “المزرعة” التي ينتمي إليها الشيخ البلعوس. ويقف خلف زجّ النظام بهذين الاسمين في المقابلة رغبته بافتعال فتنة عائلية حتى بين أبناء القرية الواحدة، كما راهن على ردّة فعل بعض المشايخ تجاه عائلتي الحسين وأبو محمود. إلا أن “مشايخ الكرامة” تنبّهوا إلى أن هذه الفتنة هي امتدادٌ لمحاولات النظام الدائمة والمتكرّرة في بثِّ الفتنة.
ولكن من الجدير بالذكر أن هذه الرواية جعلت الناس تغرق في تحليل الاعترافات، والدخول بالتفاصيل، فالتهوا عن حدث التفجير بقراءة تفاصيله وتحليلها، بينما النظام يستفيد من الوقت والضياع الحاصل.
خاتمة
يُظهر حراك “مشايخ الكرامة”، كما يتوقع من مبادرات المجتمع الأهلي المفصولة قصرياً عن البنى السياسية (نتيجة القمع الأمنيّ المهول، وعجز بنيوي في هذه البنى)، ما في المجتمع من إيجابيات وسلبيات. كما يطوي في جنباته، نتيجة محليته، عوامل تكريس المحلية وانتقالها للمستوى السياسي، وهي الأخطار التي وصلت في ارتقاءٍ قسريٍّ في مناطق أخرى من سوريا، إلى مصاف الطائفيّة السياسيّة. يعدُّ العمل لتجنّب هذا المنحى الكامن، والذي تقاومه وطنية سورية مُحاربة من أطرافٍ قوية على جانبي الصراع السوري، مهمة ضاغطة يفترض بالأطراف الوطنية داخل بنية حركة “مشايخ الكرامة”، وفي الوسط الثوري، أخذها بعين الاعتبار حين التعامل مع خطواتهم المقبلة.
بالنسبة لاحتمالات المرحلة المقبلة، فمرتبط بفاعليتين متواجهتين نتيجة اغتيال الشيخ البلعوس، من جهة النظام الاستبدادي والأخرى حركة “مشايخ الكرامة”. من جهة “مشايخ الكرامة” سيكون تحديدُ مسارات الأمور مرتبطاً بقدرتهم على استشراف الاحتمالات، وتجنّب الخطوة الناقصة كما الخطوة الزائدة، وبمدى جدية تفاعل تحالفاتهم معهم، وهو ما يجري في ظلِّ غياب تعويل على “الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة” للإسهام في إخراج السويداء من الوضع الذي أدخلها النظام فيه، بل أغلب الظن أنه تجرأ على خطوته التصعيدية باغتيال الشيخ البلعوس معتمداً على عجزها البنيويِّ وطائفيّة القوة المهيمنة فيها.
واحتمالات “مشايخ الكرامة”، حسب ما يظهر حتى الآن، محصورةٌ بين اتجاهين:
الأول، أن يتجهوا نحو التصعيد، وهو ما صرّحوا به حتى الآن على الرغم من وجود جهود للتهدئة، الأمر الذي يفترض أنهم سيتحسبون له بدقة في ظلِّ وجود المحافظة بين مطرقة النظام وسندان داعش من جهة، وجبهة النصرة ومتطرّفين آخرين من جهة أخرى، ويحتاج إلى دعمٍ ثابتٍ من قبل القوى المعتدلة في محافظة درعا، وبناء على اتفاقيات واضحة؛ وهذا يعني تنسيق “شيوخ الكرامة” مع الجبهة الجنوبية في درعا والقنيطرة، فيصبح أمر بدء العمليات وشنّ الهجوم مرتبطاً بقرارات غرفة عمليات تلك الجبهة.
والاحتمال الثاني، أن يسير “مشايخ الكرامة” على النهج الأول للشيخ وحيد البلعوس، وهو مسك العصا من الوسط، والإبقاء على حالة توازن الرعب مع النظام. إلا أن الأمر بحاجة لقبول الأجهزة الأمنية بالتراجع عن أهداف اغتيال الشيخ البلعوس، ومن ثمة اقتناعهم بأن تستمرَّ الحركة المطلبيّة في المحافظة، وتنامي قوة المجتمع الأهلي على حساب سطوتها، وهو ما يصعب تخيّل حصوله.
بينما الأقرب للتوقع أن تكون الأجهزة الأمنية تجهّز نفسها، وأتباعها، وميليشياتها المحلية، متأملة تخبط “مشايخ الكرامة”، للانقضاض على مبادرة المجتمع الأهلي، والبدء بالتخلص من “مشايخ الكرامة” والمعارضة السياسية على حدٍّ سواء.
(1)- يمكن العودة لكتاب “استراتيجية سلطة الأستبداد في مواجهة الثورة السورية”، عدد من الكتاب، اعداد وتحرير يوسف فخر الدين، إصدار مركز دراسات الجمهورية الديمقراطية.
(2)- يمكن العودة إلى “في تعقيدات الصراع السوري”، يوسف فخر الدين، مركز دراسات الجمهورية الديمقراطية.
(3)- يمكن العودة إلى “أثر اقتصاد الحرب في التنظيمات الاجتماعية (3)”، جاد الكريم جباعي، مركز دراسات الجمهورية الديمقراطية.
(4) يمكن مراجعة: همام الخطيب، محافظتا درعا والسويداء في مواجهة الفتنة- “قادسية بصرى” وأثرها على محافظة السويداء، مركز دراسات الجمهورية الديمقراطية،

همام الخطيب

محلّل في قسم التحليل السياسي والإحصاء في مركز دراسات الجمهورية الديمقراطية